أَعْلَمُ. ثُمَّ يُقَالُ لِأَهْلِ الظَّاهِرِ: إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَصْرُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْخَوْفِ الْحَاصِلِ مِنْ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ الْخَوْفُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَصْرُ، فَإِنِ الْتَزَمُوا ذَلِكَ سَلِمُوا مِنَ الطَّعْنِ، إِلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ تَوَجَّهَ النَّقْضُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ هَذَا الْخَوْفُ الْمَخْصُوصُ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْخَوْفِ كَافٍ، أَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ فَنَقُولُ: خَالَفْنَا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْإِجْمَاعُ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، لِأَنَّا نَلْتَزِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَوْفِ الْمَخْصُوصِ، واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ عَنْ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي جَمِيعِهَا. الثَّانِي: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَدَاوَتِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ وَشِدَّةٍ فَهِيَ فِتْنَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ قَدِيمَةٌ، وَالْآنَ قَدْ أَظْهَرْتُمْ خِلَافَهُمْ فِي الدِّينِ وَازْدَادَتْ عَدَاوَتُهُمْ، وَبِسَبَبِ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ أَقْدَمُوا عَلَى مُحَارَبَتِكُمْ وَقَصْدِ إِتْلَافِكُمْ إِنْ قَدَرُوا، فَإِنْ طَالَتْ صَلَاتُكُمْ فَرُبَّمَا وَجَدُوا الْفُرْصَةَ فِي قَتْلِكُمْ، فَعَلَى هَذَا رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَدُوًّا وَلَمْ يَقُلْ أَعْدَاءً، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الشُّعَرَاءِ: 77 .
سورة النساء (4) : الآيات 102 الى 103وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ قَصْرِ الصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ فِي الْعَدَدِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَهَا فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: صَلَاةُ الْخَوْفِ كَانَتْ خَاصَّةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: كَانَتْ ثَابِتَةً ثُمَّ نُسِخَتْ. وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى قَوْلِهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله تعالى:
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ إِقَامَةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «إِذَا» تُفِيدُ الِاشْتِرَاطَ الثَّانِي: أَنَّ تَغْيِيرَ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، إِلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَحْصُلَ لِلنَّاسِ فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ