سورة النساء (4) : آية 110وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَتْبَعَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَذَكَرَ فيه ثلاثة أنواع من الترغيب فالأول:
وَالْمُرَادُ بِالسُّوءِ الْقَبِيحُ الَّذِي يَسُوءُ بِهِ غَيْرَهُ كَمَا فَعَلَ طُعْمَةُ مِنْ سَرِقَةِ الدِّرْعِ وَمِنْ رَمْيِ الْيَهُودِيِّ بِالسَّرِقَةِ وَالْمُرَادُ بِظُلْمِ النَّفْسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ كَالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَإِنَّمَا خَصَّ مَا يَتَعَدَّى إِلَى الْغَيْرِ بِاسْمِ السُّوءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ إِيصَالًا لِلضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ، وَالضَّرَرُ سُوءٌ حَاضِرٌ، فَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فَذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ لَا يَكُونُ ضَرَرًا حَاضِرًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَصِلُ الضَّرَرَ إِلَى نَفْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى حُكْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ سَوَاءٌ كَانَتْ كُفْرًا أَوْ قَتْلًا، عَمْدًا أَوْ غَصْبًا لِلْأَمْوَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
عَمَّ الْكُلَّ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِغْفَارِ كَافٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَقَوْلُهُ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
مَعْنَاهُ غَفُورًا رَحِيمًا لَهُ، وَحُذِفَ هَذَا الْقَيْدُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّرْغِيبِ فِي الِاسْتِغْفَارِ إِلَّا إذا كان المراد ذلك.
سورة النساء (4) : آية 111وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُرَغِّبَةِ فِي التَّوْبَةِ قوله تعالى:
وَالْكَسْبُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُفِيدُ جَرَّ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَصْفُ الْبَارِي تَعَالَى بِذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَرْغِيبُ الْعَاصِي فِي الِاسْتِغْفَارِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الذَّنْبُ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ مَا عَادَتْ مَضَرَّتُهُ إِلَيَّ فَإِنَّنِي مُنَزَّهٌ عن النفع والضرر، وَلَا تَيْأَسْ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بِمَا فِي قَلْبِهِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ عَلَى التَّوْبَةِ حَكِيماً
تَقْتَضِي حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ يتجاوز عن التائب.
سورة النساء (4) : آية 112وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
النوع الثالث: قوله تعالى:
وَذَكَرُوا فِي الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَطِيئَةَ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَالْإِثْمَ هُوَ الْكَبِيرَةُ وَثَانِيهَا: الْخَطِيئَةُ هِيَ الذَّنْبُ الْقَاصِرُ عَلَى فَاعِلِهَا، وَالْإِثْمُ هُوَ الذَّنْبُ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْغَيْرِ كَالظُّلْمِ وَالْقَتْلِ. وَثَالِثُهَا: الْخَطِيئَةُ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْعَمْدِ أَوْ بِالْخَطَأِ، وَالْإِثْمُ مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْعَمْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
النساء: 111 فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِثْمَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
فَالضَّمِيرُ فِي بِهِ
إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: ثُمَّ يَرْمِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْإِثْمِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَبُ كَمَا عَادَ إِلَى التِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ وَإِذا رَأَوْا