وَالْحِكْمَةَ وَأَطْلَعَكَ عَلَى أَسْرَارِهِمَا وَأَوْقَفَكَ عَلَى حَقَائِقِهِمَا مَعَ أَنَّكَ مَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِكَ فِي مُسْتَأْنَفِ أَيَّامِكَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى إِضْلَالِكَ وَإِزْلَالِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَلِكَ يُعَلِّمُكَ مِنْ حِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَوُجُوهِ كَيْدِهِمْ مَا تَقْدِرُ بِهِ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ وُجُوهِ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَا أَعْطَى الْخَلْقَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا الْقَلِيلَ، كَمَا قَالَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الْإِسْرَاءِ: 85 وَنَصِيبُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنْ عُلُومِ جَمِيعِ الْخَلْقِ يَكُونُ قَلِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ الْقَلِيلَ عَظِيمًا حَيْثُ قَالَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَسَمَّى جَمِيعَ الدُّنْيَا قَلِيلًا حَيْثُ قَالَ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ النِّسَاءِ: 77 وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غاية شرف العلم.
سورة النساء (4) : آية 114لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
في قَوْلُهُ تَعَالَى لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيهِ حِينَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: النَّجْوَى فِي اللُّغَةِ سِرٌّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يُقَالُ نَاجَيْتُ الرَّجُلَ مُنَاجَاةً وَنَجَاءً، وَيُقَالُ: نَجَوْتُ الرَّجُلَ أَنْجُو نَجْوَى بِمَعْنَى نَاجَيْتُهُ، وَالنَّجْوَى قَدْ تَكُونُ مَصْدَرًا بِمَنْزِلَةِ الْمُنَاجَاةِ، قَالَ تَعَالَى مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ الْمُجَادَلَةِ: 7 وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ، قَالَ تَعَالَى وَإِذْ هُمْ نَجْوى الْإِسْرَاءِ: 47 .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِي مَحَلِّ (مَنْ) وُجُوهًا، وَتِلْكَ/ الْوُجُوهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى النَّجْوَى فِي هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى هاهنا السِّرَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ عَنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيَكُونُ نَصْبًا كَقَوْلِهِ إِلَّا أَذىً آلِ عِمْرَانَ: 111 وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا فِي لُغَةِ مَنْ يَرْفَعُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ:
إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ جَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ فَقَالَ: التَّقْدِيرُ إِلَّا فِي نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ (مَنْ) فِي مَحَلِّ النَّجْوَى لِأَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:
الْخَفْضُ بَدَلٌ مِنْ نَجْوَاهُمْ، كَمَا تَقُولُ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زِيدٍ. وَالثَّانِي: النَّصْبُ على الاستثناء فكما تَقُولُ مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدًا، وَهَذَا اسْتِثْنَاءُ الْجِنْسِ مِنَ الْجِنْسِ، وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَا النَّجْوَى اسْمًا لِلْقَوْمِ الْمُتَنَاجِينَ كَانَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْجِنْسِ مِنَ الْجِنْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مَنْ) فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ تَجْعَلَهُ تَبَعًا لِكَثِيرٍ، عَلَى مَعْنَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا فِيمَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ، كَقَوْلِكَ: لَا خَيْرَ فِي الْقَوْمِ إِلَّا نَفَرٍ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَهُ تَبَعًا لِلنَّجْوَى، كَمَا تَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا زَيْدٍ، إِنْ شِئْتَ أَتْبَعْتَ زَيْدًا الْجَمَاعَةَ، وَإِنْ شِئْتَ أَتْبَعْتَهُ الْقَوْمَ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي مُنَاجَاةِ بَعْضِ قَوْمِ ذَلِكَ السَّارِقِ مَعَ بَعْضٍ إِلَّا أَنَّهَا فِي الْمَعْنَى عَامَّةٌ، وَالْمُرَادُ: لَا خَيْرَ فِيمَا يَتَنَاجَى فِيهِ النَّاسُ وَيَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى