تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ وُرُودِهَا. الثَّانِي: التَّخْلِيدُ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْكُفَّارِ، وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَلا يَجِدُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ نَصِيبًا لِلشَّيْطَانِ هُمُ الْكُفَّارُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ آيَاتِ الْوَعْدِ ذَكَرَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَلَوْ كَانَ الْخُلُودُ يُفِيدُ التَّأْبِيدَ وَالدَّوَامَ لَلَزِمَ التَّكْرَارُ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْخُلُودَ عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ لَا عَنِ الدَّوَامِ، وَأَمَّا فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْخُلُودَ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّأْبِيدَ إِلَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِقَابَ الْفُسَّاقِ مُنْقَطِعٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُمَا مَصْدَرَانِ: الْأَوَّلُ: مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، كأنه قال: وعد وعدا وحقا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ، أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وَهُوَ تَوْكِيدٌ ثَالِثٌ بَلِيغٌ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ التَّوْكِيدَاتِ مُعَارَضَةُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْطَانُ لِأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ وَعْدَ اللَّه أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَأَحَقُّ بِالتَّصْدِيقِ مِنْ قَوْلِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَيْسَ أَحَدٌ أَكْذَبَ مِنْهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا بِإِشْمَامِ الصَّادِ الزَّايَ، وَكَذَلِكَ كَلُّ صَادٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا دَالٌ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ قَصْدُ السَّبِيلِ النَّحْلِ: 9 فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الْحِجْرِ: 94 وَالْقِيلُ: مَصْدَرُ قَالَ قولا وقيلا، وقال ابن السكيت: القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى:
سورة النساء (4) : آية 123لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأُمْنِيَّةُ أُفْعُولَةٌ مِنَ الْمُنْيَةِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى/ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الْحَجِّ: 52 .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (لَيْسَ) فِعْلٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْمٍ يَكُونُ هُوَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَيْسَ الثَّوَابُ الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي النساء: 122 الْآيَةَ، بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيْ لَيْسَ يُسْتَحَقُّ بِالْأَمَانِيِّ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. الثَّانِي: لَيْسَ وَضْعُ الدِّينِ عَلَى أَمَانِيِّكُمْ. الثَّالِثُ:
لَيْسَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ بِأَمَانِيِّكُمْ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ إِسْنَادَ لَيْسَ إِلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِيمَا قَبْلُ أَوْلَى مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ خِطَابٌ مَعَ مَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَأَمَانِيُّهُمْ أَنْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ حَشْرٌ وَلَا نَشْرٌ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِهِ لَكِنَّهُمْ يَصِفُونَ أَصْنَامَهُمْ بِأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه، وَأَمَّا أَمَانِيُّ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ قَوْلُهُمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ