أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه: إِنْ يَكُنْ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ، عَلَى (كَانَ) التَّامَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَالْمَعْنَى اتْرُكُوا مُتَابَعَةَ الْهَوَى حَتَّى تَصِيرُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ الْعَدْلِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَمَنْ تَرَكَ أَحَدَ النَّقِيضَيْنِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْآخَرُ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِأَجْلِ أَنْ تَعْدِلُوا يَعْنِي اتْرُكُوا مُتَابَعَةَ الْهَوَى لِأَجْلِ أَنْ تَعْدِلُوا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَإِنْ تَلْوُوا بِوَاوَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ تَلُوا وَأَمَّا قِرَاءَةُ تَلْوُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الدَّفْعِ وَالْإِعْرَاضِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوَاهُ حَقَّهُ إِذَا مَطَلَهُ وَدَفَعَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ مِنْ قَوْلِهِمْ:
لَوَى الشَّيْءَ إِذَا فَتَلَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: الْتَوَى هَذَا الْأَمْرُ إِذَا تَعَقَّدَ وَتَعَسَّرَ تَشْبِيهًا بِالشَّيْءِ الْمُنْفَتِلِ، وَأَمَّا تَلُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وِلَايَةَ الشَّيْءِ إِقْبَالٌ عَلَيْهِ وَاشْتِغَالٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ تُقْبِلُوا عَلَيْهِ فَتُتِمُّوهُ أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهُ فَإِنَّ اللَّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا فَيُجَازَى الْمُحْسِنُ الْمُقْبِلُ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ الْمُعْرِضُ بِإِسَاءَتِهِ، وَالْحَاصِلُ: إِنْ تَلْوُوا عَنْ إِقَامَتِهَا أَوْ تُعْرِضُوا عَنْ إِقَامَتِهَا، وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تَلُوا أَصْلُهُ تَلْوُوا ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى السَّاكِنِ الَّذِي قَبْلَهَا فَصَارَ تَلْوُوا وَهَذَا أَضْعَفُ الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فَهُوَ تَهْدِيدٌ ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين.
سورة النساء (4) : آية 136يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا إِذَا كَانَ رَاسِخَ الْقَدَمِ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهَا آيَةَ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُحَالٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ المراد بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا دُومُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ آمِنُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٍ: 19 مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ آمِنُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ. وَثَالِثُهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِحَسَبِ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْجَمِيلَةِ آمِنُوا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ التَّفْصِيلِيَّةِ. وَرَابِعُهَا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالدَّلَائِلِ التَّفْصِيلِيَّةِ باللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ آمِنُوا بِأَنَّ كُنْهَ عَظَمَةِ اللَّه لَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ عُقُولُكُمْ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الْمَلَائِكَةِ وَأَسْرَارُ الْكُتُبِ وَصِفَاتُ الرُّسُلِ لَا تَنْتَهِي إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ عُقُولُنَا. وَخَامِسُهَا:
رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّا نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعُزَيْرٍ، وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ آمِنُوا باللَّه وَبِرُسُلِهِ وَبِمُحَمَّدٍ وبكتابه القرآن