هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّمَا قَدَّمَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ عَلَى قَوْلِهِ نَعْبُدُ لِيَكُونَ مُسْتَغْرِقًا فِي مُشَاهَدَةِ نُورِ جَلَالِ إِيَّاكَ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ مُسْتَقِرًّا فِي عَيْنِ الْفِرْدَوْسِ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا.
وَسَابِعُهَا: لَوْ قِيلَ نَعْبُدُكَ لَمْ يُفِدْ نَفْيَ عِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَيَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُشْرِكِينَ أَمَّا لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونهم وَلَا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ هَذِهِ النُّونَ نُونُ الْعَظَمَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ مَتَّى كَنْتَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَا تَقُلْ نَحْنُ وَلَوْ كُنْتَ فِي أَلْفِ أَلْفٍ مِنَ الْعَبِيدِ، أَمَّا لَمَّا اشْتَغَلْتَ بِالصَّلَاةِ وَأَظْهَرْتَ الْعُبُودِيَّةَ لَنَا فَقُلْ نَعْبُدُ لِيَظْهَرَ لِلْكُلِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَبْدًا لَنَا كَانَ مَلِكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَتَاسِعُهَا: لَوْ قَالَ إِيَّاكَ أَعْبُدُ لَكَانَ ذَلِكَ تَكَبُّرًا وَمَعْنَاهُ أَنِّي أَنَا الْعَابِدُ أَمَّا لَمَّا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنِّي وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِكَ، فَالْأَوَّلُ تَكَبُّرٌ، وَالثَّانِي تَوَاضُعٌ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمْ قَائِمٌ فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَعَ أَنَّهُ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْحَمْدِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِ اللَّهِ فَإِذَا قُلْتَ لِلَّهِ فَقَدْ تَقَيَّدَ الْحَمْدُ بِأَنْ يَكُونَ لِلَّهِ أَمَّا لَوْ قَدَّمَ قَوْلَهُ «نَعْبُدُ» احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الْحَمْدَ لَمَّا جَازَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَمَا جَازَ لِلَّهِ، لَا جَرَمَ حسن تقدم الحمد أما هاهنا فَالْعِبَادَةُ لَمَّا لَمْ تَجُزْ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ عَلَى نَعْبُدُ، فَتَعَيَّنَ الصَّرْفُ لِلْعِبَادَةِ فَلَا يَبْقَى فِي الْكَلَامِ احْتِمَالُ أَنْ تَقَعَ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النُّونُ فِي قَوْلِهِ نَعْبُدُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نُونَ الْجَمْعِ أَوْ نُونَ التَّعْظِيمِ، وَالْأَوَّلُ:
بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ جَمْعًا، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ عِنْدَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، فَاللَّائِقُ بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَذْكُرَ نَفْسَهُ بِالْعَجْزِ وَالذِّلَّةِ لَا بِالْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ: فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ النُّونِ نُونُ الْجَمْعِ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ مَعْلُومَةٌ فِي مَوْضِعِهَا، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ،
ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْضُرَ الْجَمَاعَةَ لِئَلَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ إِنْسَانٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَذِهِ الطَّاعَةُ الَّتِي لَهَا هَذَا الثَّوَابُ الْعَظِيمُ لَا يَفِي ثَوَابُهَا بِأَنْ يَتَأَذَّى وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرَائِحَةِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الثَّوَابُ لَا يَفِي بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَفِي بِإِيذَاءِ الْمُسْلِمِ وَكَيْفَ يَفِي بِالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ وَالسِّعَايَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ فَيَقُولُ نَعْبُدُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ كَانَ الْمُرَادُ أَنِّي أَعْبُدُكَ وَالْمَلَائِكَةُ مَعِي فِي الْعِبَادَةِ. فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَعْبُدُ هُوَ وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ فَلَوْ قَالَ إِيَّاكَ أَعْبُدُ لَكَانَ قَدْ ذَكَرَ عِبَادَةَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ عِبَادَةَ غَيْرِهِ، أَمَّا لَمَّا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ عِبَادَةَ نَفْسِهِ وَعِبَادَةَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا فَكَأَنَّهُ سَعَى فِي إِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَضَى اللَّهُ مُهِمَّاتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَضَى لِمُسْلِمٍ حَاجَةً قَضَى اللَّهُ لَهُ جَمِيعَ حاجاته» .