سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ فَضَائِحَ أَعْمَالِ الْيَهُودِ وَقَبَائِحَ الْكَافِرِينَ وَأَفْعَالِهِمْ ذَكَرَ عَقِيبَهُ تَشْدِيدَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا تَشْدِيدُهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَتْ مُحَلَّلَةً لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ الْأَنْعَامِ: 146 ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا هُوَ كَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِهَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَنْوَاعَ الذُّنُوبِ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: الظُّلْمِ لِلْخَلْقِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ، أَمَّا ظُلْمُ الْخَلْقِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْحِرْصِ فِي طَلَبِ الْمَالِ، فَتَارَةً يُحَصِّلُونَهُ بِالرِّبَا مَعَ أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ، وَتَارَةً بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ الْمَائِدَةِ: 43 فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الذُّنُوبُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا التَّشْدِيدُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا التَّشْدِيدُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ طَرِيقَةَ الْكُفَّارِ وَالْجُهَّالِ مِنَ اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم.
سورة النساء (4) : آية 162لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الثَّابِتُونَ فِيهِ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَدِلُّونَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَكُونُ بِحَيْثُ إِذَا شُكِّكَ يَشُكُّ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَتَشَكَّكُ الْبَتَّةَ، فَالرَّاسِخُونَ هُمُ الْمُسْتَدِلُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وارتفع الراسخون على الابتداء ويُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ/ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ فِي الْمُصْحَفِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ مَنْقُولٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ ثُبُوتُ اللَّحْنِ فِيهِ، الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ، قَالُوا إِذَا قُلْتَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْكَرِيمِ فَلَكَ أَنْ تَجُرَّ الْكَرِيمَ لِكَوْنِهِ صِفَةً لِزَيْدٍ، وَلَكَ أَنْ تَنْصِبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَإِنْ شِئْتَ رَفَعْتَ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ الْكَرِيمُ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: جَاءَنِي قَوْمُكَ الْمُطْعِمِينَ فِي الْمَحَلِّ وَالْمُغِيثُونَ فِي الشَّدَائِدِ، وَالتَّقْدِيرُ جَاءَنِي قَوْمُكَ أَعْنِي الْمَطْعِمِينِ فِي الْمَحَلِّ وَهُمُ الْمُغِيثُونَ فِي الشَّدَائِدِ فَكَذَا هاهنا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَعْنِي الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَهُمُ الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، طَعَنَ الْكِسَائِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الكلام، وهاهنا لم