الزيدية، والثالث: أن المراد جميع الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَرَجَّحُوا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
أَنَّ الذَّبَائِحَ هِيَ الَّتِي تَصِيرُ طَعَامًا بِفِعْلِ الذَّابِحِ، فَحَمْلُ قَوْلِهِ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عَلَى الذَّبَائِحِ أَوْلَى، وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا سِوَى الذَّبَائِحِ فَهِيَ مُحَلَّلَةٌ قَبْلَ أَنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْدَ أَنْ صَارَتْ لَهُمْ، فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَائِدَةٌ، وَثَالِثُهَا: مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، فَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الذَّبَائِحِ أَوْلَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أَيْ وَيَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ طَعَامِكُمْ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّه أَنْ نُطْعِمَهُمْ مِنْ ذَبَائِحِنَا، وَأَيْضًا فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ أَنَّ إِبَاحَةَ الْمُنَاكَحَةِ غَيْرُ حَاصِلَةٍ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَإِبَاحَةَ الذَّبَائِحِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْجَانِبَيْنِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَفِي الْمُحْصَنَاتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْحَرَائِرُ، وَالثَّانِي:
أَنَّهَا الْعَفَائِفُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَمَهْرُ الْأَمَةِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهَا بَلْ إِلَى سَيِّدِهَا، وَثَانِيهَا: أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ النِّسَاءِ: 25 أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ إِنَّمَا يَحِلُّ بِشَرْطَيْنِ: عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَحُصُولُ الْخَوْفِ مِنَ الْعَنَتِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَفَائِفِ بِالْحِلِّ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ/ الزَّانِيَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا الْمُحْصَنَاتِ عَلَى الْحَرَائِرِ يَلْزَمُ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ عَلَى بَعْضِ التَّقْدِيرَاتِ، وَرَابِعُهَا: أَنَا بَيَّنَّا أَنَّ اشْتِقَاقَ الْإِحْصَانِ مِنَ التَّحَصُّنِ، وَوَصْفُ التَّحَصُّنِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ أَكْثَرُ ثُبُوتًا مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَةَ وَإِنْ كانت عفيفة إلا أنها لا تخلوا مِنَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَ النَّاسِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُحْصَنَاتِ بِالْحَرَائِرِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِغَيْرِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ التَّزَوُّجُ بِالذِّمِّيَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لَا يَرَى ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الْبَقَرَةِ: 221 وَيَقُولُ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ قَوْلِهَا: إِنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إِذَا آمَنَتْ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا أَمْ لَا؟ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا رَخَّصَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمُسْلِمَاتِ قِلَّةٌ، وَأَمَّا الْآنَ فَفِيهِنَّ الْكَثْرَةُ الْعَظِيمَةُ، فَزَالَتِ الْحَاجَةُ فَلَا جَرَمَ زَالَتِ الرُّخْصَةُ، وَالثَّالِثُ: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَاعَدَةِ عَنِ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ الْمُمْتَحِنَةِ: 1 وَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ آلِ عِمْرَانَ: 118 وَلِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الزَّوْجِيَّةِ رُبَّمَا قَوِيَتِ الْمَحَبَّةُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَيْلِ الزَّوْجِ إِلَى دِينِهَا، وَعِنْدَ حُدُوثِ الْوَلَدِ فَرُبَّمَا مَالَ الْوَلَدُ إِلَى دِينِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْقَاءٌ لِلنَّفْسِ فِي الضَّرَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْكَافِرَةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِبَاحَةَ التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ لَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِيبَهَا كَالتَّنَاقُضِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.