تَمَسَّكُوا بِقِصَّةِ الْجِنِّ قُلْنَا: قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَاءً نُبِذَتْ فِيهِ تُمَيْرَاتٌ لِإِزَالَةِ الْمُلُوحَةِ، وَأَيْضًا فَقِصَّةُ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَجَعْلُ هَذَا نَاسِخًا لِذَلِكَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْأَصَمُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِجَمِيعِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْجَبَ اللَّه التَّيَمُّمَ، وَتَجْوِيزُ الْوُضُوءِ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ يُبْطِلُ ذَلِكَ.
احْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أَمْرٌ بِمُطْلِقِ الْغَسْلِ، وَإِمْرَارُ الْمَائِعِ عَلَى الْعُضْوِ يُسَمَّى غَسْلًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا
وَإِذَا كَانَ الْغَسْلُ اسْمًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ مَا يَحْصُلُ بِالْمَاءِ وَبَيْنَ مَا يَحْصُلُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ كَانَ قَوْلُهُ فَاغْسِلُوا إِذْنًا فِي الْوُضُوءِ بِكُلِّ الْمَائِعَاتِ.
قُلْنَا: هَذَا مُطْلَقٌ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُقَيَّدٌ، وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُوَ الْوَاجِبُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِالزَّعْفَرَانِ تَغَيُّرًا فَاحِشًا لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَاءِ لَا يُسَمَّى مَاءً عَلَى الْإِطْلَاقِ فَوَاجِدُهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ وَاجِدَهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالزَّعْفَرَانِ مَاءٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَانَ أَصْلُ الْمَاءِ مَوْجُودًا لَا مَحَالَةَ، فَوَاجِدُهُ يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمَاءُ الَّذِي تَغَيَّرَ وَتَعَفَّنَ بِطُولِ الْمُكْثِ طَاهِرٌ طَهُورٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عَلَى عَدَمِ الْمَاءِ وَهَذَا الْمَاءُ الْمُتَعَفِّنُ مَاءٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ وُجُودِهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْوُضُوءِ يَبْقَى طَاهِرًا طَهُورًا، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ طَهُورًا وَلَكِنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ إِنَّهُ نَجِسٌ. حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ مُعَلَّقٌ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَوَاجِدُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ جَازَ لَهُ التَّوَضُّؤُ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً الْفُرْقَانِ: 48 وَالطَّهُورُ هُوَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ مِنْهُ هَذَا الْفِعْلُ كَالضَّحُوكِ وَالْقَتُولِ وَالْأَكُولِ وَالشَّرُوبِ، وَالتَّكْرَارُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الطَّهَارَةِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ مَالِكٌ: الْمَاءُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ بِتِلْكَ النَّجَاسَةِ بَقِيَ طَاهِرًا طَهُورًا سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجَسُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فِي عَشَرَةٍ يَنْجَسُ. حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ اللَّه جَعَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَوَاجِدُ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّيَمُّمُ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عِنْدَ صَيْرُورَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ مُتَغَيِّرًا، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْعَامُّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْغَسْلِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي سَائِرِ