صِفَةً، فَإِنْ كَانَ ذَاتًا فَذَاتُ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَلَّتْ فِي عِيسَى وَاتَّحَدَتْ بِعِيسَى فَيَكُونُ عِيسَى هُوَ الْإِلَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأُقْنُومَ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّفَةِ، فَانْتِقَالُ الصِّفَةِ مِنْ ذَاتٍ إِلَى ذَاتٍ أُخْرَى غَيْرُ مَعْقُولٍ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ انْتِقَالِ أُقْنُومِ الْعِلْمِ عَنْ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى إِلَى عِيسَى يَلْزَمُ خُلُوَّ ذَاتِ اللَّه عَنِ الْعِلْمِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَمْ يَكُنْ إِلَهًا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْإِلَهُ هُوَ عِيسَى عَلَى قَوْلِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّصَارَى وَإِنْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ حَاصِلَ مَذْهَبِهِمْ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ احْتَجَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَهَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ قَدَّمَ فِيهَا الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ مُرَادِهِ وَمَقْدُورِهِ، وَقَوْلُهُ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً
أَيْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ أَفْعَالِ اللَّه شَيْئًا، وَالْمُلْكُ هُوَ الْقُدْرَةُ، يَعْنِي فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى وَمَنْعِ شَيْءٍ مِنْ مُرَادِهِ. وَقَوْلُهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً المعارج: 14 يعني أن عيسى مشاكل لمن فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ وَتَغْيِيرِ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَمَّا سَلَّمْتُمْ كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُلِّ مُدَبِّرًا لِلْكُلِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا خَالِقًا لِعِيسَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنَّمَا قَالَ وَما بَيْنَهُما بعد ذكر السموات وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَقُلْ: بَيْنَهُنَّ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِذَلِكَ مَذْهَبَ الصِّنْفَيْنِ وَالنَّوْعَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، فَتَارَةً يَخْلُقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَمَا هُوَ مُعْتَادٌ، وَتَارَةً لَا مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَمَا في خلق آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَارَةً مِنَ الْأُمِّ لَا مِنَ الْأَبِ كَمَا فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، يَعْنِي أَنَّ عِيسَى إِذَا قَدَّرَ صُورَةَ الطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ فاللَّه تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِ اللَّحْمِيَّةَ وَالْحَيَاةَ وَالْقُدْرَةَ مُعْجِزَةً لِعِيسَى، وَتَارَةً يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ مُعْجِزَةً لَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّه تعالى في شيء من أفعاله.
سورة المائدة (5) : آية 18وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُمْ؟ وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي حَقِّ عِيسَى لَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ؟
أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ نَحْنُ أَبْنَاءُ رُسُلِ اللَّه، فَأُضِيفَ إِلَى اللَّه ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسول اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الْفَتْحِ: 10 وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ابْنِ الصُّلْبِ فَقَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ ابْنًا، وَاتِّخَاذُهُ ابْنًا بِمَعْنَى تَخْصِيصِهِ بِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَالْقَوْمُ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ عِنَايَةَ اللَّه بِهِمْ أَشَدُّ وَأَكْمَلُ مِنْ عِنَايَتِهِ بِكُلِّ مَا سِوَاهُمْ، لَا جَرَمَ عَبَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ دَعْوَاهُمْ كَمَالَ عِنَايَةِ اللَّه بِهِمْ بِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّه. الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّه، وَالنَّصَارَى زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّه، ثم زعموا أن عزيزا وَالْمَسِيحَ كَانَا مِنْهُمْ، صَارَ