المتشابهات لا من المحكمات، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً الْمَائِدَةِ: 17 وَذَلِكَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّه كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ خَلْقُهُ وَحُكْمُهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ نَفْسٍ وَالتَّقْدِيرُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ بِغَيْرِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَحِلُّ لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا الْقَصَاصُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ وَمِنْهَا الْكُفْرُ مَعَ الْحِرَابِ، وَمِنْهَا الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمَائِدَةِ: 33 فَجَمَعَ تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الخامسة: قوله فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً فيه إِشْكَالٌ. وَهُوَ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ كَيْفَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِقَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مُسَاوِيًا لِلْكُلِّ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ بِسَبَبِ هَذَا السُّؤَالِ وُجُوهًا مِنَ الْجَوَابِ وَهِيَ بِأَسْرِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ تَشْبِيهَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِمُشَابَهَتِهِمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذَا يُشْبِهُ ذَاكَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا/ ظَهَرَتْ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمَقْصُودُ مِنْ تَشْبِيهِ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِقَتْلِ النُّفُوسِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، يَعْنِي كَمَا أَنَّ قَتْلَ كُلِّ الْخَلْقِ أَمْرٌ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدِ كُلِّ أَحَدٍ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ مُسْتَعْظَمًا مَهِيبًا فَالْمَقْصُودُ مُشَارَكَتُهُمَا فِي الِاسْتِعْظَامِ، لَا بَيَانُ مُشَارَكَتِهِمَا فِي مِقْدَارِ الِاسْتِعْظَامِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُسْتَعْظَمًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً النِّسَاءِ: 93 .
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَوْ عَلِمُوا مِنْ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَتْلَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَهُ دَفْعًا لَا يُمَكِّنُهُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَتْلَ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جِدُّهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ فِي مَنْعِهِ عَنْ قَتْلِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مِثْلَ جِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَقَدْ رَجَّحَ دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى دَاعِيَةِ الطَّاعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا التَّرْجِيحُ حَاصِلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ نَازَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَطَالِبِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَقَتَلَهُ، وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي الْخَيْرَاتِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي الشُّرُورِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَقْتُلْ إِنْسَانًا قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ الثَّلَاثَةُ حَسَنَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً الْمُرَادُ مِنْ إِحْيَاءِ النَّفْسِ تَخْلِيصُهَا عَنِ الْمُهْلِكَاتِ: مِثْلِ الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ إِحْيَاءَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ إِحْيَاءِ النُّفُوسِ عَلَى قِيَاسِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ قَتْلِ النُّفُوسِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.