فِي الْفِدَاءِ إِلَى أَنْ بَلَغَ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَأَبَى الرَّجُلُ إِلَّا الْقَصَاصَ، فَاسْتَنْظَرَ عُمَرَ فَأَنْظَرَهُ عُمَرُ فَهَرَبَ إِلَى الرُّومِ وَارْتَدَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَتَوَلَّ مِنْكُمُ الْكُفَّارَ فَيَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَأْتِي بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ يَنْصُرُونَ هَذَا الدِّينَ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: عَلِمَ اللَّه أَنَّ قَوْمًا يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَوْتِ نَبِيِّهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، وَقَدْ وَقَعَ الْمُخْبَرُ عَلَى وَفْقِهِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مَنْ هُمْ؟
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ وقتادة والضحاك وابن جريح: هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: مَاتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَاشْتَهَرَ النِّفَاقُ، وَنَزَلَ بِأَبِي مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَهَاضَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا الرَّسُولَ وَأَعَانُوهُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ.
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَالَ: هُمْ قَوْمُ هَذَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الْفُرْسُ لِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سئل عن هَذِهِ الْآيَةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ/ عَلَى عَاتِقِ سَلْمَانَ وَقَالَ: هَذَا وَذَوُوهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» .
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَفَعَ الرَّايَةَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ: «لَأَدْفَعَنَّ الرَّايَةَ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّه وَرَسُولُهُ» ،
وَهَذَا هُوَ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ الْمَائِدَةِ: 55 وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ، فَكَانَ الْأَوْلَى جَعْلُ مَا قَبْلَهَا أَيْضًا فِي حَقِّهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامَاتٌ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَتَقْرِيرُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَإِمَامَتِهِ كُلَّهُمْ كَفَرُوا وَصَارُوا مُرْتَدِّينَ، لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا النَّصَّ الْجَلِيَّ عَلَى إمامة علي عليه السلام فَنَقُولُ: «لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَاءَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْمٍ يُحَارِبُهُمْ وَيَقْهَرُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَكَلِمَةُ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ اللَّه يَأْتِي بِقَوْمٍ يَقْهَرُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ وَيُبْطِلُ شَوْكَتَهُمْ، فَلَوْ كَانَ الَّذِينَ نصبوا أبا بكر للخلافة لَوَجَبَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِقَوْمٍ يَقْهَرُهُمْ وَيُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ فَإِنَّ الرَّوَافِضَ هُمُ الْمَقْهُورُونَ الْمَمْنُوعُونَ عَنْ إِظْهَارِ مَقَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَبَدًا مُنْذُ كَانُوا عَلِمْنَا فَسَادَ مَقَالَتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ أَنْصَفَ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمُحَارَبَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى مُحَارَبَةَ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى مَا شَرَحْنَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُحَارَبَةُ الْمُرْتَدِّينَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ