وَالْحُجَجِ شِدَّةً فِي الْكُفْرِ وَغُلُوًّا فِي الْإِنْكَارِ، كَمَا يُقَالُ: مَا زَادَتْكَ مَوْعِظَتِي إِلَّا شَرًّا. وَقِيلَ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ زِيَادَةٌ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ عِنْدَ إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ كُفْرًا وَضَلَالًا، فَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ مُعَلَّلَةً بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ لِلْعِبَادِ لَامْتَنَعَ عَلَيْهِ إِنْزَالُ تِلْكَ الْآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَهَا عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الْعِبَادِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ التَّوْبَةِ: 125 .
فَإِنْ قَالُوا: عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ أَنْزَلَهَا أَوْ لَمْ يُنْزِلْهَا فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْكُفْرِ، فَلِهَذَا حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى إِنْزَالُهَا.
قُلْنَا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِازْدِيَادُ لِأَجْلِ إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ، وهذا يقتضي أن/ تكون إضافة ازدياد اكفر إِلَى إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّتِهَا لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَلِأَجْلِ حُبِّ الْجَاهِ وَالتَّبَعِ وَالْمَالِ وَالسِّيَادَةِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَمَا حَرَمَهُمْ سَعَادَةَ الدِّينِ، فَكَذَلِكَ حَرَمَهُمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَى مَذْهَبِهِ وَمَقَالَتِهِ، يُبَالِغُ فِي نُصْرَتِهِ وَيَطْعَنُ فِي كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالْمَقَالَاتِ تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ وَتَرْوِيجًا لِمَذْهَبِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْخُصُومَةِ الشَّدِيدَةِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ وَطَوَائِفِهِمْ، وَانْتَهَى الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضًا، وَيَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي قَوْلِهِ وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَا بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُمْ في قوله لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى المائدة: 51 وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وُقُوعُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ فِرَقِ الْيَهُودِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ جَبْرِيَّةٌ، وَبَعْضَهُمْ قَدَرِيَّةٌ، وَبَعْضَهُمْ مُوَحِّدَةٌ، وَبَعْضَهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ فِرَقِ النَّصَارَى: كَالْمَلْكَانِيَّةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِتَمَامِهِ بَيْنَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ عَيْبًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟
قُلْنَا: هَذِهِ الْبِدَعُ إِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، أَمَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَلَمْ يَكُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَاصِلًا، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أَصْحَابِهِ جَعْلُ ذَلِكَ عَيْبًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ.
وَهَذَا شَرْحُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ المحن عن الْيَهُودِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا هَمُّوا بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ رَجَعُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ مَقْهُورِينَ مَلْعُونِينَ كَمَا قال تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا آلِ عِمْرَانَ: 112 قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْيَهُودَ بِبَلْدَةٍ إِلَّا وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَيْ لَيْسَ يَحْصُلُ فِي أَمْرِهِمْ قُوَّةٌ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ