يُقَالَ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْوُجُودِ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا بِعَيْنِهِ. وَهَذَا مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا فِي نَفْسِهِ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ لذاته، وما كان كذلك فإنه لا يُرَادُ بِهِ التَّكْلِيفُ، الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ:
الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ عِنْدَ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَاجِبًا بِعَيْنِهِ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى هُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بِتَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه نَصِيبُ كُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، وَهُوَ ثُلُثَا مَنٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ/ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْوَاجِبُ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَصَاعٌ مِنْ غَيْرِ الْحِنْطَةِ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْإِطْعَامِ إِلَّا قَوْلَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَهَذَا الْوَسَطُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الْعُرْفِ، أَوْ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الْعُرْفِ فَثُلُثَا مَنٍ مِنَ الْحِنْطَةِ إِذَا جُعِلَ دَقِيقًا أَوْ جُعِلَ خُبْزًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَرِيبًا مِنَ الْمَنِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي قُوتِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ لَهُ مِقْدَارٌ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ فِي خَبَرِ الْمُفْطِرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مِقْدَارٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَجِدُ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعِمْ هَذَا،
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ بِرُبْعِ الصَّاعِ، وَهُوَ مُدٌّ، وَلَا يُلْزَمُ كَفَّارَةَ الْحَلِفِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ مُطْلَقَةً عَنِ التَّقْدِيرِ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ، فَكَانَ قَدْرُهَا مُعْتَبَرًا بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَقْدِيرُهَا بِالصَّاعِ لَا بِالْمُدِّ.
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَالْأَوْسَطُ هُوَ الْأَعْدَلُ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه هُوَ أَدْنَى مَا يَكْفِي، فَأَمَّا الْأَعْدَلُ فَيَكُونُ بِإِدَامٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّه:
مُدٌّ مَعَهُ إِدَامُهُ، وَالْإِدَامُ يَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ مُدٍّ آخَرَ أَوْ يَزِيدُ فِي الْأَغْلَبِ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّوَسُّطَ فِي الْقَدْرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ قَلِيلَ الْأَكْلِ جِدًّا يَكْفِيهِ الرَّغِيفُ الْوَاحِدُ، وَرُبَّمَا كَانَ كَثِيرَ الْأَكْلِ فَلَا يَكْفِيهِ الْمَنَوَانِ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَوَسِّطَ الْغَالِبَ أَنَّهُ يَكْفِيهِ مِنَ الْخُبْزِ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْمَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّوَسُّطَ في القيمة لا يكون غالبا كَالسُّكَّرِ، وَلَا يَكُونُ خَسِيسَ الثَّمَنِ كَالنُّخَالَةِ وَالذُّرَةِ، وَالْأَوْسَطُ هُوَ الْحِنْطَةُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْخُبْزُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَوْسَطَ فِي الطِّيبِ وَاللَّذَاذَةِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَنَقُولُ:
يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِدَامَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى التَّوَسُّطِ فِي قَدْرِ الطَّعَامِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ وَاجِبٌ بِيَقِينٍ، وَالْبَاقِي مَشْكُوكٌ فِيهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبْنَا الْيَقِينَ وطرحنا الشك واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْوَاجِبُ تَمْلِيكُ الطَّعَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا غَدَّى أَوْ عَشَّى عَشَرَةَ مساكين جاز.