الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ النُّورِ: 26 وَأَيْضًا كُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَالْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْإِضَافَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَمَالِ قُبْحِهِ. قَالَ تَعَالَى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ الْقَصَصِ: 15 ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ قَالَ فَاجْتَنِبُوهُ أَيْ كُونُوا جَانِبًا مِنْهُ، وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى مَاذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الرِّجْسِ، وَالرِّجْسٌ وَاقِعٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَكَانَ الْأَمْرُ/ بِالِاجْتِنَابِ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ.
الثَّانِي: أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّمَا شَأْنُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَوْ تَعَاطِيهِمَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ فِيهَا نَوْعَيْنِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ: فَالْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بالدنيا وهو قوله:
سورة المائدة (5) : آية 91إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
وَاعْلَمْ أَنَّا نَشْرَحُ وَجْهَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَوَّلًا فِي الْخَمْرِ ثُمَّ فِي الْمَيْسِرِ:
أَمَّا الْخَمْرُ فَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَنَّهُ يَشْرَبُهَا مَعَ جَمَاعَةٍ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ الشُّرْبِ أَنْ يَسْتَأْنِسَ بِرُفَقَائِهِ وَيَفْرَحَ بِمُحَادَثَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ، فَكَانَ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ تَأْكِيدَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ يَنْقَلِبُ إِلَى الضِّدِّ لِأَنَّ الْخَمْرَ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْلُ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةِ الْعَقْلِ، وَعِنْدَ اسْتِيلَائِهِمَا تَحْصُلُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ أُولَئِكَ الْأَصْحَابِ، وَتِلْكَ الْمُنَازَعَةُ رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالْمُشَافَهَةِ بِالْفُحْشِ، وَذَلِكَ يُورِثُ أَشَدَّ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَالشَّيْطَانُ يُسَوِّلُ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الشُّرْبِ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَبِالْآخِرَةِ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَحَصَلَتْ نِهَايَةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَفِيهِ بِإِزَاءِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ الْإِجْحَافُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ مَنْ صَارَ مَغْلُوبًا فِي الْقِمَارِ مَرَّةً دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى اللَّجَاجِ فِيهِ عَنْ رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا صَارَ غَالِبًا فِيهِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَإِلَى أَنْ يُقَامِرَ عَلَى لِحْيَتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْقَى فَقِيرًا مِسْكِينًا وَيَصِيرُ مِنْ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا غَالِبِينَ لَهُ فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ سَبَبَانِ عَظِيمَانِ فِي إِثَارَةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شِدَّةَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ تُفْضِي إِلَى أَحْوَالٍ مَذْمُومَةٍ مِنَ الْهَرْجِ وَالْمَرْجِ وَالْفِتَنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَمَعَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مَعَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ ثُمَّ أَفْرَدَهُمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ.
قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ المائدة: 90 وَالْمَقْصُودُ نَهْيُهُمْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِظْهَارُ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْقُبْحِ وَالْمَفْسَدَةِ، / فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِنَّمَا ضَمَّ الْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ إِلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تَأْكِيدًا لِقُبْحِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، لَا جَرَمَ أَفْرَدَهُمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ بِالذِّكْرِ.