مُعَيَّنَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ، فَنَقُولُ: وَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّرْتِيبُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَاهُنَا شُرِعَ عَلَى سَبِيلِ التغليظ بدليل قوله لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ
... وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي التَّغْلِيظَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِخْرَاجَ الْمِثْلِ لَيْسَ أَقْوَى عُقُوبَةً مِنْ إِخْرَاجِ الطَّعَامِ، فَالتَّخْيِيرُ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَدْرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي إِيجَابِ الْمِثْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قَتَلَ صَيْدًا لَهُ مِثْلٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْمِثْلَ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ الْمِثْلَ بِدَرَاهِمَ، وَيَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ، وَأَمَّا الصَّيْدُ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَ الصَّيْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَيَشْتَرِيَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا وَيَتَصَدَّقَ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا الصَّيْدُ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ إِنَّمَا يَشْتَرِي الطَّعَامَ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّه:
إِنَّمَا يَشْتَرِي الطَّعَامَ بِقِيمَتِهِ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ هُوَ الْجَزَاءُ وَالطَّعَامُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَيُعْدَلُ بِهِ كَمَا يُعْدَلُ عَنِ الصَّوْمِ بِالطَّعَامِ، وَأَيْضًا تَقْوِيمُ مِثْلِ الصَّيْدِ أَدْخَلُ فِي الضَّبْطِ مِنْ تَقْوِيمِ نَفْسِ الصَّيْدِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه:
أَنَّ مِثْلَ الْمُتْلَفِ إِذَا وَجَبَ اعْتُبِرَ بِالْمُتْلَفِ لَا بِغَيْرِهِ مَا أَمْكَنَ، وَالطَّعَامُ إِنَّمَا وَجَبَ مِثْلًا لِلْمُتْلَفِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ التَّقْوِيمِ: فَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّمَا يُقَوَّمُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِلَ الصَّيْدُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يُقَوَّمُ بِمَكَّةَ بِثَمَنِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ يُكَفِّرُ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَدْلُ مَا عَادَلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالْعِدْلُ الْمِثْلُ، تَقُولُ عِنْدِي عِدْلُ غُلَامِكَ أَوْ شَاتِكَ إِذَا كَانَ عِنْدَكَ غُلَامٌ يَعْدِلُ غُلَامًا أَوْ شَاةٌ تَعْدِلُ شَاةً، أَمَّا إِذَا أَرَدْتَ قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ نَصَبْتَ الْعَيْنَ فَقُلْتَ عَدْلٌ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْعَدْلُ الْمِثْلُ، وَالْعِدْلُ الْقِيمَةُ، وَالْعَدْلُ اسْمُ حِمْلٍ مَعْدُولٍ بِحِمْلٍ آخَرَ مُسَوًّى بِهِ، وَالْعِدْلُ تَقْوِيمُكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ سَوَاءٌ وَقَوْلُهُ صِياماً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، كَمَا تقول عندي رطلان عسلا، وملء بيت قتا، وَالْأَصْلُ فِيهِ إِدْخَالُ حَرْفٍ مِنْ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ نَصَبْتَهُ. تَقُولُ: رِطْلَانِ مِنَ الْعَسَلِ وَعَدْلُ ذَلِكَ مِنَ الصِّيَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّهُ يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ/ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ يَصُومُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِطَعَامِ يَوْمٍ، إِلَّا أَنَّ طَعَامَ الْيَوْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُقَدَّرٌ بِالْمُدِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ صَاعٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: زَعَمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْخِيَارَ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّه إِلَى الْحَكَمَيْنِ: حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَيِّهَا شَاءَ، وَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْخِيَارَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ فَقَالَ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً أَيْ كَذَا وَكَذَا.
وَجَوَابُنَا: أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ
... أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً وَأَمَّا الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ فَهُوَ تَعْيِينُ الْمِثْلِ، إِمَّا فِي الْقِيمَةِ أَوْ فِي الْخِلْقَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ وفيه مسألتان: