آخِرُهَا ذَكَرًا شَقُّوا أُذُنَ النَّاقَةِ وَامْتَنَعُوا مِنْ رُكُوبِهَا وَذَبْحِهَا وَسَيَّبُوهَا لِآلِهَتِهِمْ، وَلَا يُجَزُّ لَهَا وَبَرٌ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَلَا تُطْرَدُ عَنْ مَاءٍ، وَلَا تُمْنَعُ عَنْ مَرْعًى، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا وَإِذَا لَقِيَهَا الْمُعْيَى لَمْ يَرْكَبْهَا تَحْرِيجًا.
وَأَمَّا السَّائِبَةُ: فَهِيَ فَاعِلَةٌ مِنْ سَابَ إِذَا جَرَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُقَالُ: سَابَ الْمَاءُ وَسَابَتِ الْحَيَّةُ، فَالسَّائِبَةُ هِيَ الَّتِي تُرِكَتْ حَتَّى تَسِيبَ إِلَى حَيْثُ شَاءَتْ، وَهِيَ الْمُسَيَّبَةُ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ بِمَعْنَى مَرْضِيَّةٍ، وَذَكَرُوا فِيهَا وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا مَرِضَ أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ نَذَرَ نَذْرًا أَوْ شَكَرَ نِعْمَةً سَيَّبَ بَعِيرًا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَحِيرَةِ فِي جَمِيعِ مَا حَكَمُوا لَهَا، وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا وَلَدَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ كُلُّهُنَّ إِنَاثٌ، سُيِّبَتْ فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ تُحْلَبْ وَلَمْ يُجَزَّ لَهَا وَبَرٌ، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا وَلَدٌ أَوْ ضَيْفٌ، وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
السَّائِبَةُ هِيَ الَّتِي تُسَيَّبُ لِلْأَصْنَامِ أَيْ تُعْتَقُ لَهَا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُسَيِّبُ مِنْ مَالِهِ مَا يَشَاءُ، فَيَجِيءُ بِهِ إِلَى السَّدَنَةِ وَهُمْ خَدَمُ آلِهَتِهِمْ فَيُطْعِمُونَ/ مِنْ لَبَنِهَا أَبْنَاءَ السَّبِيلِ، وَرَابِعُهَا: السَّائِبَةُ هُوَ الْعَبْدُ يُعْتَقُ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا مِيرَاثٌ.
وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ: فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِذَا وَلَدَتِ الشَّاةُ أُنْثَى فَهِيَ لَهُمْ وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا فَهُوَ لِآلِهَتِهِمْ، وَإِنْ ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها، ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وَصَلَتْ أَخَاهَا، وَأَمَّا الْحَامُ فَيُقَالُ: حَمَاهُ يَحْمِيهِ إِذَا حَفِظَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: الْفَحْلُ إِذَا رُكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ. قِيلَ: حَمَى ظَهْرَهُ أَيْ حَفِظَهُ عَنِ الرُّكُوبِ فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مَاءٍ وَلَا مَرْعًى إِلَى أَنْ يَمُوتَ فَحِينَئِذٍ تَأْكُلُهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَثَانِيهَا: إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ قَالُوا حَمَتْ ظَهْرَهَا حَكَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَثَالِثُهَا: الْحَامُ هُوَ الْفَحْلُ الَّذِي يَضْرِبُ فِي الْإِبِلِ عَشْرَ سِنِينَ فَيُخَلَّى، وَهُوَ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَازَ إِعْتَاقُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ إِعْتَاقُ هَذِهِ الْبَهَائِمِ مِنَ الذَّبْحِ وَالْإِتْعَابِ وَالْإِيلَامِ.
قُلْنَا: الْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ لِخِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَعُبُودِيَّتِهِ، فَإِذَا تَمَرَّدَ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى عُوقِبَ بِضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِ، فَإِذَا أُزِيلَ الرِّقُّ عَنْهُ تَفَرَّغَ لِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً مُسْتَحْسَنَةً، وَأَمَّا هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَتَرْكُهَا وَإِهْمَالُهَا يَقْتَضِي فَوَاتَ مَنْفَعَةٍ عَلَى مَالِكِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ فِي مُقَابَلَتِهَا فَائِدَةٌ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَأُعْتِقَ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْبَهِيمَةُ إِذَا أُعْتِقَتْ وَتُرِكَتْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ نَفْسِهَا فَوَقَعَتْ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْمِحْنَةِ أَشَدَّ وَأَشَقَّ مِمَّا كَانَتْ فِيهَا حَالَ مَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ كَانَ قَدْ مَلَكَ مَكَّةَ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، فَاتَّخَذَ الْأَصْنَامَ، وَنَصَبَ الْأَوْثَانَ، وَشَرَعَ الْبَحِيرَةَ والسابئة وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي أَهْلَ النار بريح قصبه»
والقصب المعا وَجَمْعُهُ الْأَقْصَابُ،
وَيُرْوَى يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يُرِيدُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ عَلَى اللَّه هَذِهِ الْأَكَاذِيبَ وَالْأَبَاطِيلَ فِي تَحْرِيمِهِمْ هَذِهِ الْأَنْعَامَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرُّؤَسَاءَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه عَلَى الْكَذِبِ، فَأَمَّا الْأَتْبَاعُ وَالْعَوَامُّ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، فَلَا جَرَمَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه هَذِهِ الْأَكَاذِيبَ مِنْ أُولَئِكَ الرؤساء ثم قال تعالى: