فِيهِ وَجْهَانِ نَحْوَ يَا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ:
يَا حَكَمُ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ بِرَفْعِ الْأَوَّلِ وَنَصْبِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ نِعْمَتِي عَلَيْكَ أَرَادَ الْجَمْعَ كَقَوْلِهِ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها النَّحْلِ: 18 وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُضَافٌ يَصْلُحُ لِلْجِنْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَسَّرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
رُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الرُّوحُ جِبْرِيلُ وَالْقُدُسُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، كَأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْأَرْوَاحَ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ فَمِنْهَا طَاهِرَةٌ نُورَانِيَّةٌ وَمِنْهَا خَبِيثَةٌ ظَلْمَانِيَّةٌ، وَمِنْهَا مُشْرِقَةٌ، وَمِنْهَا كَدِرَةٌ، وَمِنْهَا خَيِّرَةٌ، وَمِنْهَا نَذْلَةٌ وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ»
فاللَّه تَعَالَى خَصَّ عِيسَى بِالرُّوحِ الطَّاهِرَةِ النُّورَانِيَّةِ الْمُشْرِقَةِ الْعُلْوِيَّةِ الْخَيِّرَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَأْيِيدَ عِيسَى إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ جِبْرِيلَ أَوْ بِسَبَبِ رُوحِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، قَدَحَ هَذَا فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ لِأَنَّا قَبْلَ الْعِلْمِ بِعِصْمَةِ جِبْرِيلَ نُجَوِّزُ أَنَّهُ أَعَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى سَبِيلِ إِغْوَاءِ الْخَلْقِ وَإِضْلَالِهِمْ فَمَا لَمْ تُعْرَفْ عِصْمَةُ جِبْرِيلَ لَا يَنْدَفِعُ هَذَا وَمَا لَمْ تُعْرَفْ نُبُوَّةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تُعْرَفُ عِصْمَةُ جِبْرِيلَ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ وَجَوَابُهُ: مَا ثَبَتَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ إِلَّا اللَّه وَبِهِ يَنْدَفِعُ هَذَا السُّؤَالُ.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أَمَّا كَلَامُ عِيسَى فِي الْمَهْدِ فَهُوَ قَوْلُهُ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ مَرْيَمَ: 30 وَقَوْلُهُ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: يُكَلِّمُهُمْ طِفْلًا وَكَهْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَفَاوَتَ كَلَامُهُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَهَذِهِ خَاصِّيَّةٌ شَرِيفَةٌ كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُ وَمَا حَصَلَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَفِي الْكِتابَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ بِهِ الْكِتَابَةُ وَهِيَ الْخَطُّ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ جِنْسُ الْكُتُبِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَعَلَّمُ أَوَّلًا كُتُبًا سَهْلَةً مُخْتَصَرَةً، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْهَا إِلَى الْكُتُبِ الشَّرِيفَةِ. وَأَمَّا الْحِكْمَةَ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: / الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْكُتُبِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَقَوْلِهِ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى الْبَقَرَةِ: 238 وَقَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْأَحْزَابِ: 7 وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى أَسْرَارِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ صَارَ بَانِيًا فِي أَصْنَافِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَبْحَثُ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ.
فَقَوْلُهُ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا أَكَابِرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسلام.
وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ فَتَكُونُ طَائِرًا وَالْبَاقُونَ طَيْراً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَطَيْرٌ جَمْعُ طَائِرٍ كَضَأْنٍ وَضَائِنٍ وَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ.