مُشَاهَدَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فِي تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فَإِذَا حَاوَلَ إِنْقَاذَ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ مِنْ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ زَالَتْ تِلْكَ الرِّقَّةُ عَنِ الْقَلْبِ وَصَارَ فَارِغَ الْقَلْبِ طَيِّبَ الْوَقْتِ، فَذَلِكَ الْإِحْسَانُ كَأَنَّهُ سَبَبٌ أَفَادَ تَخْلِيصَ الْقَلْبِ عَنْ أَلَمِ الرِّقَّةِ الحسيّة، فثبت أن كل ما سِوَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِفِعْلِ الْإِحْسَانِ إِمَّا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ مَضَرَّةٍ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ يُحْسِنُ وَلَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَكَانَ الْمُحْسِنُ الْحَقِيقِيُّ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، فَبِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِكُلِّ أَقْسَامِ الْحَمْدِ هُوَ اللَّه، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ إِحْسَانٍ يُقْدِمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ فَالِانْتِفَاعُ بِهِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِحْسَانِ اللَّه، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ أَنْوَاعَ النِّعْمَةِ وَإِلَّا لَمْ يَقْدِرِ الْإِنْسَانُ عَلَى إِيصَالِ تِلْكَ الْحِنْطَةِ وَالْفَوَاكِهِ إِلَى الْغَيْرِ، وَأَيْضًا فلولا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ الْمِزَاجَ الصَّحِيحَ وَالْبِنْيَةَ السَّلِيمَةَ وَإِلَّا لَمَا أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ إِحْسَانٍ يَصْدُرُ عَنْ مُحْسِنٍ سِوَى اللَّه/ تَعَالَى، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِحْسَانِ اللَّه تَعَالَى. وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مُحْسِنَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّه، وَلَا مُسْتَحِقَّ لِلْحَمْدِ إِلَّا اللَّه. فَلِهَذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِجَمِيعِ النِّعَمِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُنْتَفِعِ بَعْدَ كَوْنِهِ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا، وَنِعْمَةُ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَالتَّرْبِيَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَالْأَرْزَاقُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ مِنْ أَوَّلِ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ. ثُمَّ إِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي آثَارِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَوَصَلَ إِلَى مَا أَوْدَعَ اللَّه تَعَالَى فِي أَعْضَائِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ عَلِمَ أَنَّهَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِبْرَاهِيَمِ: 34 فَبِتَقْدِيرِ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الْعَبْدَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْعِمَ عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا أَنَّ نِعَمَ الْعَبْدِ كَالْقَطْرَةِ، وَنِعَمَ اللَّه لَا نِهَايَةَ لَهَا أَوَّلًا وَآخِرًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ الْمُطْلَقِ وَالثَّنَاءِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ فَلِهَذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: أَحْمَدُ اللَّه، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَمْدَ صِفَةُ الْقَلْبِ وَرُبَّمَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ حال كونه غافلا يقلبه عَنِ اسْتِحْضَارِ مَعْنَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، فَلَوْ قَالَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحْمَدُ اللَّه، كَانَ كَاذِبًا وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ دَعْوَى شَيْءٍ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا. أَمَّا إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَمْدِ وَحَقِيقَتَهُ مُسَلَّمَةٌ للَّه تَعَالَى. وَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ وَصِدْقٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ حَاضِرًا فِي قَلْبِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكَانَ تَكَلُّمُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ عِبَادَةً شَرِيفَةً وَطَاعَةً رَفِيعَةً فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ. وَثَانِيهَا:
رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُهُ بِالشُّكْرِ، فَقَالَ دَاوُدُ:
يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ وَشُكْرِي لَكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا أَنْ تُوَفِّقَنِي لِشُكْرِكَ وَذَلِكَ التَّوْفِيقُ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ وَإِنَّهَا تُوجِبُ الشُّكْرَ لِي أَيْضًا وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا طَاقَةَ لِي بِفِعْلِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ: لَمَّا عَرَفْتَ عَجْزَكَ عَنْ شُكْرِي فَقَدْ شَكَرْتَنِي.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ قَالَ الْعَبْدُ أَحْمَدُ اللَّه كَانَ دَعْوَى أَنَّهُ أَتَى بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ السُّؤَالُ. أَمَّا لَوْ قَالَ، الْحَمْدُ للَّه فَلَيْسَ فِيهِ ادِّعَاءٌ أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْحَمْدِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحْمَدُ اللَّه كَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِأَنَّهُ ذَكَرَ حَمْدَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَمْدَ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا قَالَ:
الْحَمْدُ للَّه، فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ حَمْدُهُ وَحَمْدُ غَيْرِهِ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى آخِرِ اسْتِقْرَارِ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَرَجَاتِ الْجِنَانِ