وَيُسَبِّحُونَنِي وَيَحْمَدُونَنِي. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تَعْرِفُ اللَّه وَتَحْمَدُهُ وَتُوَحِّدُهُ وَتُسَبِّحُهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ الْإِسْرَاءِ: 44 وَبِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْحَيَوَانَاتِ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ النُّورِ: 41 وَبِمَا أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ النَّمْلَ وَخَاطَبَ الْهُدْهُدَ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وَتَحْقِيقِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أُبْهِمَتْ عُقُولُ الْبَهَائِمِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ، وَطَلَبِ الرِّزْقِ، وَمَعْرِفَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَهَيُّؤِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعِجُّ إِلَى اللَّه يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي عَبَثًا لَمْ يَنْتَفِعْ بِي وَلَمْ يَدَعْنِي آكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ فِي كونها أمما وجماعات وفي كونها مَخْلُوقَةً بِحَيْثُ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَأْنَسُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَيَتَوَالَدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ كَالْإِنْسِ إِلَّا أَنَّ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ حَمْلُ/ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً مُعْتَبَرَةً لِأَنَّ كَوْنَ الْحَيَوَانَاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهَا.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّهَا أَمْثَالُنَا فِي أَنْ دَبَّرَهَا اللَّه تَعَالَى وَخَلَقَهَا وَتَكَفَّلَ بِرِزْقِهَا وَهَذَا يَقْرُبُ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِخْبَارِ عَمَّا عُلِمَ حُصُولُهُ بِالضَّرُورَةِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحْصَى فِي الْكِتَابِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْبَشَرِ، مِنَ الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَكَذَلِكَ أَحْصَى فِي الْكِتَابِ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ لِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ عَقِيبَ قَوْلِهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ فَائِدَةٌ إلا ما ذكرناه.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَرَادَ تَعَالَى أَنَّهَا أَمْثَالُنَا فِي أنها تحشر يوم القيامة يوصل إِلَيْهَا حُقُوقُهَا، كَمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ» .
الْقَوْلُ السَّادِسُ: مَا اخْتَرْنَاهُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِتْيَانَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عِنَايَتَهُ وَصَلَتْ إِلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا وَصَلَتْ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَمَنْ بَلَغَتْ رَحْمَتُهُ وَفَضْلُهُ إِلَى حَيْثُ لَا يَبْخَلُ بِهِ عَلَى الْبَهَائِمِ كَانَ بِأَنْ لَا يَبْخَلَ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَوْلَى، فَدَلَّ مَنْعُ اللَّه مِنْ إِظْهَارِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِأُولَئِكَ السَّائِلِينَ فِي إِظْهَارِهَا، وَأَنَّ إِظْهَارَهَا عَلَى وَفْقِ سُؤَالِهِمْ وَاقْتِرَاحِهِمْ يُوجِبُ عَوْدَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ إِلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ: مَا رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ آدَمِيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقْدِمُ إِقْدَامَ الْأَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ الذِّئْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ كَفِعْلِ الطَّاوُسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ فَإِنَّهُ لَوْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ الطَّيِّبُ تَرَكَهُ وَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ رَجِيعِهِ وَلَغَ فِيهِ. فَكَذَلِكَ نَجِدُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَإِنْ أَخْطَأْتَ مَرَّةً وَاحِدَةً حَفِظَهَا، وَلَمْ يَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا رواه عنه.