إِلَى النَّارِ، وَأَكَّدَ الْقَاضِي هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ تَوَسُّعًا مِنْ حَيْثُ جُعِلُوا بِتَكْذِيبَهُمْ بِآيَاتِ اللَّه تَعَالَى فِي الظُّلُمَاتِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَنَافِعِ الدِّينِ، كَالصُّمِّ وَالْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا.
فَشَبَّهَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهِمْ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ مِثْلَ صِفَاتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ قَوْلُهُ صُمٌّ وَبُكْمٌ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فَقَالَ الْكَعْبِيُّ: لَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَجْمَلَ القول فيه هاهنا، فَقَدْ فَصَّلَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ إِبْرَاهِيمَ: 27 وَقَوْلُهُ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الْبَقَرَةِ: 26 وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً مُحَمَّدٍ: 17 وَقَوْلُهُ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ الْمَائِدَةِ: 16 وَقَوْلُهُ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ إِبْرَاهِيمَ: 27 وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا الْعَنْكَبُوتِ: 69 فَثَبْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَشِيئَةَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَإِنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الْمُجْمَلِ عَلَى تِلْكَ الْمُفَصَّلَاتِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ذَكَرُوا تَأْوِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْعِ الْأَلْطَافِ فَصَارُوا عِنْدَهَا كَالصُّمِّ وَالْبُكْمِ. وَالثَّانِي: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَعَنْ وِجْدَانِ الثَّوَابِ، وَمَنْ يَشَأْ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الْجَنَّةِ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ هَذَا الْإِضْلَالَ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ عُقُوبَةً كَمَا لَا يَشَاءُ الْهُدَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي تَكَلَّفَهَا هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ إِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لَوْ ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظاهره. أما لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ الْعُدُولُ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمُتَكَلِّفَةِ بَعِيدًا جِدًّا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِي، وَبَيَّنَّا أَنَّ خَالِقَ ذَلِكَ الدَّاعِي هُوَ اللَّه، وَبَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ حُصُولِهِ يَجِبُ الْفِعْلُ، فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مِنَ اللَّه، وبتخليفه وَتَقْدِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَمَتَى ثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ هَذَا الظَّاهِرِ، كَانَ الذَّهَابُ إِلَى هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ فَاسِدًا قَطْعًا، وَأَيْضًا فَقَدْ تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْوُجُوهَ بِالْإِبْطَالِ وَالنَّقْضِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الْبَقَرَةِ: 7 وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ، وَأَقْرَبُهَا أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ وَالْهِدَايَةَ مُعَلَّقَانِ بِالْمَشِيئَةِ، وَعَلَى مَا قَالُوهُ: فَهُوَ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ شَاءَ أَمْ أَبَى واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ وَمُحَمَّدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. واللَّه أعلم.
سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)