وَاحِدَتُهُ صُورَةٌ وَإِنَّمَا تُجْمَعُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ صُوَرًا لِأَنَّ وَاحِدَتَهُ سَبَقَتْ جَمْعَهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْهَيْثَمِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَأَقُولُ: وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ/ الْمُرَادُ نَفْخَ الرُّوحِ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ لَأَضَافَ تَعَالَى ذَلِكَ النَّفْخَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْخَ الْأَرْوَاحِ فِي الصُّوَرِ يُضِيفُهُ اللَّه إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الْحِجْرِ: 29 وَقَالَ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وقال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ وأما نفخ الصُّورِ بِمَعْنَى النَّفْخِ فِي الْقَرْنِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُضِيفُهُ لَا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ الْمُدَّثِّرِ: 8 وَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
... ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ الزُّمَرِ: 68 فَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، واللَّه أعلم بالصواب.
سورة الأنعام (6) : آية 74وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ سبحانه كثيرا يَحْتَجُّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِأَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ بِفَضْلِهِ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ وَالْمِلَلِ فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ مُقِرِّينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُعَظِّمُونَ لَهُ مُعْتَرِفُونَ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ. فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه حِكَايَةَ حَالِهِ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ الْعَظِيمَ وَهُوَ اعْتِرَافُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِفَضْلِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ الرَّبِّ وبين العبد معاهدة. كما قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ البقرة: 40 فَإِبْرَاهِيمُ وَفَّى بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ، واللَّه تَعَالَى شَهِدَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ تَارَةً وَعَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ أُخْرَى. أَمَّا الْإِجْمَالُ فَفِي آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ الْبَقَرَةِ: 124 وَهَذَا شَهَادَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ تَمَّمَ عَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ الْبَقَرَةِ: 131 وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاظِرٌ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ فِي مَقَامَاتٍ كَثِيرَةٍ.
فَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي هَذَا الْبَابِ مُنَاظَرَاتُهُ مَعَ أَبِيهِ حَيْثُ قال له: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
مَرْيَمَ: 42 .
وَالْمَقَامُ الثَّانِي: مُنَاظَرَتُهُ مَعَ قَوْمِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ الْأَنْعَامِ: 76 .
وَالْمَقَامُ الثَّالِثُ: مُنَاظَرَتُهُ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ، فَقَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ البقرة: 258 .
والمقام الرابع: مناظرته مع الكفارة بِالْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ الْأَنْبِيَاءِ:
58 ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ الْأَنْبِيَاءِ: 68 ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بَذَلَ وَلَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ الصَّافَّاتِ: 102 فَعِنْدَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْفِتْيَانِ، لِأَنَّهُ سَلَّمَ قَلْبَهُ لِلْعِرْفَانِ وَلِسَانَهُ لِلْبُرْهَانِ وَبَدَنَهُ لِلنِّيرَانِ وَوَلَدَهُ لِلْقُرْبَانِ وَمَالَهُ لِلضِّيفَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ الشُّعَرَاءِ: 84 فَوَجَبَ فِي كَرَمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَيُحَقِّقُ مَطْلُوبَهُ فِي هَذَا السُّؤَالِ، فَلَا جَرَمَ أَجَابَ دُعَاءَهُ، وَقَبِلَ نِدَاءَهُ وَجَعْلَهُ مَقْبُولًا لِجَمِيعِ الْفِرَقِ وَالطَّوَائِفِ