وَأَجَابَ عَنْ حُجَّتِهِمُ الثَّانِيَةِ وَهِيَ: أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِالْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ لِأَنَّ الْخَوْفَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ لَا تَقْدِرُ وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْخَوْفُ مِنْهَا؟
فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ لِلطَّلْسَمَاتِ آثَارًا مَخْصُوصَةً، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْخَوْفُ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؟
قُلْنَا: الطَّلْسَمُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى تَأْثِيرَاتِ الْكَوَاكِبِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قُوَى الْكَوَاكِبِ عَلَى التَّأْثِيرَاتِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى فَيَكُونُ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِلَّا أَنْ أُذْنِبَ فَيَشَاءُ إِنْزَالَ الْعُقُوبَةِ بِي. / وَثَانِيهَا: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَبْتَلِيَنِي بِمِحَنِ الدُّنْيَا فَيَقْطَعَ عَنِّي بَعْضَ عَادَاتِ نِعَمِهِ. وَثَالِثُهَا: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي فَأَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ بِأَنْ يُحْيِيَهَا وَيُمَكِّنَهَا مِنْ ضُرِّي وَنَفْعِي وَيُقَدِّرَهَا عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَيَّ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْدُثَ لِلْإِنْسَانِ فِي مُسْتَقْبَلِ عُمْرِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَارِهِ، وَالْحَمْقَى مِنَ النَّاسِ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، فَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَنَّهُ حَدَثَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَارِهِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا السَّبَبِ.
ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يَعْنِي أَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَلَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّلَاحَ وَالْخَيْرَ وَالْحِكْمَةَ، فَبِتَقْدِيرِ: أَنْ يَحْدُثَ مِنْ مَكَارِهِ الدُّنْيَا فَذَاكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عُرِفَ وَجْهُ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ فِيهِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ.
ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ نَفْيَ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ عَنِ اللَّه تَعَالَى لَا يُوجِبُ حُلُولَ الْعِقَابِ وَنُزُولَ الْعَذَابِ، وَالسَّعْيُ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَتُحاجُّونِّي خَفِيفَةَ النُّونِ عَلَى حَذْفِ أَحَدِ النُّونَيْنِ وَالْبَاقُونَ عَلَى التَّشْدِيدِ على الإدغام. وأما قوله: وَقَدْ هَدانِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ هَدَانِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا لِلتَّخْفِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاجَّهُمْ فِي اللَّه وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَالْقَوْمُ أَيْضًا حَاجُّوهُ فِي اللَّه، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ فَحَصَلَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ فِي اللَّه تَارَةً تَكُونُ مُوجِبَةً لِلْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْبَالِغِ، وَهِيَ الْمُحَاجَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَتَارَةً تَكُونُ مُوجِبَةً لِلذَّمِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ البابين لا أَنَّ الْمُحَاجَّةَ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ الْحَقِّ تُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَالْمُحَاجَّةُ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ الْبَاطِلِ تُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الذَّمِّ وَالزَّجْرِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ صَارَ هَذَا قَانُونًا مُعْتَبَرًا، فَكُلُّ مَوْضِعٍ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ يَدُلُّ عَلَى تَهْجِينِ أَمْرِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْرِيرِ الدِّينِ الْبَاطِلِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ جَاءَ يَدُلُّ عَلَى مَدْحِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْرِيرِ الدِّينِ الْحَقِّ وَالْمَذْهَبِ الصِّدْقِ. واللَّه أَعْلَمُ.