عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَعَلَى عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ قَدْ سَبَقَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، فَثَبَتَ سُقُوطُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَظَهَرَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَقَوَّيْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَهُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْجِنَّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا الْجِنُّ شُرَكَاءُ اللَّه، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، ثُمَّ إِنَّ فِي الْمَجُوسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى تَفَكَّرَ فِي مَمْلَكَةِ نَفْسِهِ وَاسْتَعْظَمَهَا فَحَصَلَ نَوْعٌ مِنَ الْعَجَبِ، فَتَوَلَّدَ الشَّيْطَانُ عَنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ شَكَّ فِي قُدْرَةِ نَفْسِهِ فَتَوَلَّدَ مِنْ شَكِّهِ الشَّيْطَانُ، فَهَؤُلَاءِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، وَأَنَّ مُحْدِثَهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الشَّيْطَانَ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى امْتَنَعَ جَعْلُهُ شَرِيكًا للَّه فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، لِأَنَّ الْخَالِقَ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَجَعْلُ الضَّعِيفِ النَّاقِصِ شَرِيكًا لِلْقَوِيِّ الْكَامِلِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْجَاعِلِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الشَّرِكَةَ بَيْنَ اللَّه تَعَالَى وَبَيْنَ الْجِنِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ صَارَ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ دَلِيلًا قَاطِعًا تَامًّا كَامِلًا فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فَائِدَةٌ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَاجِبٌ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْجِنُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : قرئ وَخَلَقَهُمْ أي اختلافهم لِلْإِفْكِ. يَعْنِي: وَجَعَلُوا اللَّه خَلْقَهُمْ حَيْثُ نَسَبُوا ذَبَائِحَهُمْ إِلَى اللَّه فِي قَوْلِهِمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها.
ثُمَّ قَالَ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا إِبْلِيسَ شَرِيكًا للَّه تَعَالَى. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَكَى عَنْ أَقْوَامٍ آخَرِينَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه بَنِينَ وَبَنَاتٍ. أَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْبَنِينَ فَهُمُ النَّصَارَى وَقَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْبَنَاتِ فَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا هُوَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ فِي فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَوَلَدُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ فِي وُجُودِهِ بِالْآخَرِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَالِدٌ لَهُ الْبَتَّةَ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُشْعِرٌ بِالْفَرْعِيَّةِ وَالْحَاجَةِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَلَدُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَجُودُهُ بِإِيجَادِ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ وَلَا وَلَدًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْإِلَهَ مَا هُوَ، امْتَنَعَ مِنْهُ أَنْ يُثْبِتَ لَهُ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ بَعْدَ فَنَائِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَفْنَى، أَمَّا مَنْ تَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْقَلِ الْوَلَدُ فِي حَقِّهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْوَلَدَ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا عَنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَالِدِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ مُرَكَّبًا وَيُمْكِنُ انْفِصَالُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ مُحَالٌ، فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ