الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ الْعَالِمَ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، فَلَوْ قَدَّرْنَا إِلَهًا ثَانِيًا لَكَانَ ذَلِكَ الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا وَمَوْجُودًا لِشَيْءٍ مِنْ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ أَحَدُهُمَا صَارَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَانِعًا لِلْآخَرِ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْدُورِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِعَجْزِ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا يَفْعَلُ فِعْلًا وَلَا يُوجِدُ شَيْئًا كَانَ نَاقِصًا مُعَطِّلًا، وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْإِلَهَ الْوَاحِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَوْ فَرَضْنَا إِلَهًا ثَانِيًا لَكَانَ ذَلِكَ الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَمْرٍ مَا، إِذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِيَازُ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لَمْ يَحْصُلِ التَّعَدُّدُ وَالِاثْنَيْنِيَّةُ، وَإِذَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ بِأَمْرٍ مَا فَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُمَيَّزُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ الِامْتِيَازُ بِهِ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُمَيَّزُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَالْمَوْصُوفُ بِهِ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ وَالْإِيجَادِ، وَأَنَّ الزَّائِدَ يَجِبُ نَفْيُهُ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى هَاهُنَا فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ التَّمَانُعِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَالُوا:
أَعْمَالُ الْعِبَادِ أَشْيَاءُ، واللَّه تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا/ وَاعْلَمْ أَنَّا أَطْنَبْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ فِي كِتَابِ «الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ» ، وَنَكْتَفِي هَاهُنَا مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِنُكَتٍ قَلِيلَةٍ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ:
هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ خَارِجَةٌ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ.
فَأَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ فَلَوْ دَخَلَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ تَحْتَ قَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنَا خَلَقْتُ أَعْمَالَكُمْ فَافْعَلُوهَا بِأَعْيَانِهَا أَنْتُمْ مَرَّةً أُخْرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ دَخَلَ تَحْتَهُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَدْحًا وَثَنَاءً لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَمَدَّحَ بِخَلْقِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَالْكُفْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها، الْأَنْعَامِ: 104 وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ الْبَتَّةَ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ للَّه تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى لَمَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَوْجَدَهُ اللَّه تَعَالَى امْتَنَعَ مِنْهُ الدَّفْعُ، وَإِذَا لَمْ يُوجِدْهُ اللَّه تَعَالَى امْتَنَعَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ. فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ كَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ فِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى، ثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها يُوجِبُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْعُمُومِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ رِوَايَةُ مَذْهَبِ الْمَجُوسِ فِي إِثْبَاتِ إِلَهَيْنِ لِلْعَالَمِ. أَحَدُهُمَا يَفْعَلُ اللَّذَّاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْآخَرُ يَفْعَلُ الْآلَامَ وَالْآفَاتِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ