وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِزَالَةِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ خَتَمَ الْكَلَامَ بِمَا يَكْمُلُ مَعَهُ تَبْصِيرُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُ قَدْرَ مَا جُعِلَ إِلَيْهِ فَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهُ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَلَا وَكِيلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إِلَيْهِ الْبَلَاغَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ وَفِي الْبَيَانِ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا فَإِنِ انْقَادُوا لِلْقَبُولِ فَنَفْعُهُ عائد إليهم، وَإِلَّا فَضَرَرُهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يخرج صلى الله عليه وآله وسلم من الرسالة والنبوة والتبليغ.
سورة الأنعام (6) : آية 108وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا جَمَعْتَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ مُدَارَسَةِ النَّاسِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنَ الْكُفَّارِ غَضِبُوا وَشَتَمُوا آلِهَتَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْعَمَلِ، لِأَنَّكَ مَتَى شَتَمْتَ آلِهَتَهُمْ غَضِبُوا فَرُبَّمَا ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ، فَلِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ عَنْ هَذَا الْمَحْذُورِ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ الْمَقَالِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ خَصْمَكَ إِذَا شَافَهَكَ بِجَهْلٍ وَسَفَاهَةٍ لَمْ يَجُزْ لَكَ أَنْ تَقْدُمَ عَلَى مُشَافَهَتِهِ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى كَلَامِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ فَتْحَ بَابِ الْمُشَاتَمَةِ وَالسَّفَاهَةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْأَنْبِيَاءِ: 98 قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَشَتْمِهَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَقُولُ: لِي هَاهُنَا إِشْكَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا وَكَذَا. الثَّانِي: أَنَّ/ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِلَهِ تَعَالَى وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَسُنَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ لِتَصِيرَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبِّهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْهَى ابْنَ أَخِيهِ عَنَّا فَإِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَقُولُ الْعَرَبُ: كَانَ يَمْنَعُهُ فَلَمَّا مَاتَ قَتَلُوهُ.
فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بن الحرث مَعَ جَمَاعَةٍ إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُنَا وَخَاطَبُوهُ بِمَا أَرَادُوا. فَدَعَا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنْ يَتْرُكُوكَ عَلَى دِينِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَأَبَوْا فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قُلْ غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَكْرَهُونَهَا. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا حَتَّى تَأْتُونِي بِالشَّمْسِ فَتَضَعُوهَا فِي يَدِي فَقَالُوا لَهُ اتْرُكْ شَتْمَ آلِهَتِنَا وَإِلَّا شَتَمْنَاكَ، وَمَنْ يَأْمُرُكَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى فَاسْتَحَالَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى شَتْمِ الْإِلَهِ بَلْ هَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِالدَّهْرِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ فيما كَانَ يُبَالِي بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ السَّفَاهَةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ مَتَى شَتَمُوا الْأَصْنَامَ فَهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاللَّهُ تَعَالَى أَجْرَى شَتْمَ الرَّسُولِ مَجْرَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الْفَتْحِ: 10 وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ