الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدْفِنُونَ بَنَاتِهُمْ أَحْيَاءً خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ أَوْ مِنَ التَّزْوِيجِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالشُّرَكَاءِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: شُرَكَاؤُهُمْ شَيَاطِينُهُمْ أَمَرُوهُمْ بِأَنْ يَئِدُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْعَيْلَةِ وَسُمِّيَتِ الشَّيَاطِينُ شُرَكَاءً لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُضِيفَتِ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ الْأَنْعَامِ: 22 وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ لِآلِهَتِهِمْ سَدَنَةٌ وَخُدَّامٌ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُزَيِّنُونَ لِلْكَفَّارِ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُومُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا وَكَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الشُّرَكَاءُ هُمُ السَّدَنَةُ سمعوا شُرَكَاءً كَمَا سُمِّيَتِ الشَّيَاطِينُ شُرَكَاءً فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ زُيِّنَ بِضَمِّ الزَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَبِضَمِّ اللَّامِ مِنْ: قَتْلُ وَ: أَوْلَادَهُمْ بِنَصْبِ الدَّالِّ: شُرَكَائِهِمْ بِالْخَفْضِ وَالْبَاقُونَ: زَيَّنَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْيَاءِ: قَتْلَ بِفَتْحِ اللَّامِ أَوْلادِهِمْ بِالْجَرِّ: شُرَكاؤُهُمْ بِالرَّفْعِ. أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَالتَّقْدِيرُ: زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ شُرَكَائِهِمْ أَوْلَادَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَهُوَ الْأَوْلَادُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشِّعْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَزَجَجْتُهَا بِمِزَجَّةٍ
... زَجَّ الْقَلُوصِ أَبِي مَزَادَهْ
وَإِذَا كَانَ مُسْتَكْرَهًا فِي الشِّعْرِ فَكَيْفَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزٌ فِي الْفَصَاحَةِ. قَالُوا: وَالَّذِي حَمَلَ ابْنَ عَامِرٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ: شُرَكَائِهِمْ مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ وَلَوْ قَرَأَ بِجَرِّ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ لِأَجْلِ أَنَّ الْأَوْلَادَ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لَوَجَدَ فِي ذَلِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ هَذَا الِارْتِكَابِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: فَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها الْأَنْعَامِ: 158 وَقَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ الْبَقَرَةِ: 124 وَالسَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ هُوَ إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى وَمَوْضِعُ التَّعَجُّبِ هَاهُنَا إِقْدَامُهُمْ عَلَى قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ هَذَا التَّقْدِيرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيُرْدُوهُمْ وَالْإِرْدَاءُ فِي اللُّغَةِ الْإِهْلَاكُ وَفِي الْقُرْآنِ: إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ الصَّافَّاتِ: 56 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيُرْدُوهُمْ فِي النَّارِ وَاللَّامُ هَاهُنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى لام العاقبة كما في قوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً الْقَصَصِ: 8 وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَيْ لِيَخْلِطُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِ إِسْمَاعِيلَ فَهَذَا الَّذِي أَتَاهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْضَاعِ الْفَاسِدَةِ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الدِّينِ الْحَقِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ مِرَارًا: فَذَرْهُمْ/ وَما يَفْتَرُونَ الانعام: 112 وَهَذَا عَلَى قَانُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فُصِّلَتْ: 40 وَقَوْلُهُ: وَما يَفْتَرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أولادهم فكانوا كاذبين في ذلك القول.
سورة الأنعام (6) : آية 138وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ مِنْ أَحْكَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا أَنْعَامَهُمْ أَقْسَامًا: فَأَوَّلُهَا: أَنْ قَالُوا: هذِهِ