تَرْجِيحَ جَانِبِ الْفِعْلِ وَأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ: حَصادِهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْحَاءِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ: حَصَادٌ وَحِصَادٌ وَجَدَادٌ وَجِدَادٌ وَقَطَافٌ وَقِطَافٌ وَجَذَاذٌ وَجِذَاذٌ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ جَاءُوا بِالْمَصَادِرِ حِينَ أَرَادُوا انْتِهَاءَ الزَّمَانِ عَلَى مِثَالِ فَعَالٍ وَرُبَّمَا قَالُوا فِيهِ فِعَالٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ يُرِيدُ بِهِ الْعُشْرَ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالدَّوَالِيبِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَالضَّحَّاكِ.
فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ يَوْمَ الْحَصَادِ وَالْحَبُّ فِي السُّنْبُلِ؟ وَأَيْضًا هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ مَدَنِيٌّ.
قُلْنَا: لَمَّا تَعَذَّرَ إِجْرَاءُ قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ لَا جَرَمَ حَمَلْنَاهُ عَلَى تَعَلُّقِ حَقِّ الزَّكَاةِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَعْنَى: اعْزِمُوا عَلَى إِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ وَلَا تُؤَخِّرُوهُ عَنْ أَوَّلِ وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْإِيتَاءُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزَّكَاةَ مَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي مَكَّةَ بَلْ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَدَنِيَّةَ وَرَدَتْ بِإِيجَابِهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِمَكَّةَ. وَقِيلَ أَيْضًا: هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا حَقٌّ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ.؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَصَدْتَ فَحَضَرَتِ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا دَرَسْتَهُ وَذَرَّيْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا كَرْبَلْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا عَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَمَّا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ نُسِخَ هَذَا وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَعْلُومًا قَبْلَ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ لِئَلَّا تَبْقَى هَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَقِّ حَقَّ الزَّكَاةِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ الْعِنَبُ وَالنَّخْلُ وَالزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْكُلِّ وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ كَمَا كَانَ يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَفْظُ الْحَصَادِ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ فَنَقُولُ: لَفْظُ الْحَصْدِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالزَّرْعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَصْدَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَطْعِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: حَصادِهِ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقٍّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ الزَّكَاةَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْقَلِيلِ والكثير.