وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِهْلَاكِ وَالْعُلَمَاءُ أَجَابُوا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَهْلَكْناها أَيْ حَكَمْنَا بِهَلَاكِهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا. وَثَانِيهَا: كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْمَائِدَةِ: 6 وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهُمْ إِهْلَاكُنَا لَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ وَارِدًا فكذا هاهنا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ بِلَفْظِ الْبَأْسِ. فَإِنْ قَالُوا: السُّؤَالُ بَاقٍ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا فَاءُ التَّعْقِيبِ وَهُوَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ.
فَنَقُولُ: الْفَاءُ قَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ»
فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيَغْسِلُ لِلتَّفْسِيرِ لِأَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ كَالتَّفْسِيرِ لِوَضْعِ الطهور مواضعة فكذلك هاهنا الْبَأْسُ جَارٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِذَلِكَ الْإِهْلَاكِ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَوْتِ الْمُعْتَادِ وَقَدْ يَكُونُ بِتَسْلِيطِ الْبَأْسِ وَالْبَلَاءِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ ذِكْرُ الْبَأْسِ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْإِهْلَاكِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْبَأْسُ وَالْهَلَاكُ يَقَعَانِ مَعًا كَمَا يُقَالُ: أَعْطَيْتَنِي فَأَحْسَنْتَ وَمَا كَانَ الْإِحْسَانُ بَعْدَ الْإِعْطَاءِ/ وَلَا قَبْلَهُ وَإِنَّمَا وَقَعَا مَعًا فكذا هاهنا وَقَوْلُهُ: بَياتاً قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ: بَاتَ الرَّجُلُ يَبِيتُ بَيْتًا وَرُبَّمَا قَالُوا بَيَاتًا قَالُوا: وَسُمِّيَ الْبَيْتُ لِأَنَّهُ يَبَاتُ فِيهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: بَياتاً مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ بِمَعْنَى بَائِتِينَ وَقَوْلُهُ:
أَوْ هُمْ قائِلُونَ فِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَياتاً كَأَنَّهُ قِيلَ: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَائِتِينَ أَوْ قَائِلِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
وَفِيهِ وَاوٌ مُضْمَرَةٌ وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ إِلَّا أَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ حَرْفَيِ الْعَطْفِ وَلَوْ قِيلَ: كَانَ صَوَابًا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّ وَاوَ الْحَالِ قَرِيبَةٌ مِنْ وَاوِ الْعَطْفِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ رَاجِلًا وَهُوَ فَارِسٌ لَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إِلَى وَاوِ الْعَطْفِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: كَلِمَةُ «أَوْ» دخلت هاهنا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا مَرَّةً لَيْلًا وَمَرَّةً نَهَارًا وَفِي الْقَيْلُولَةِ قَوْلَانِ:
قَالَ اللَّيْثُ: الْقَيْلُولَةُ نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَيْلُولَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ نَوْمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْجَنَّةَ لَا نَوْمَ فِيهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا الْفُرْقَانِ: 24 وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا وَهُمْ غَيْرُ مُتَوَقِّعِينَ لَهُ إِمَّا لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوْ نَهَارًا وَهُمْ قَائِلُونَ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ أَمَارَةٍ تَدُلُّهُمْ عَلَى نُزُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِلْكَفَّارِ لَا تَغْتَرُّوا بِأَسْبَابِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ وَالْفَرَاغِ فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ إِذَا وَقَعَ وَقَعَ دَفْعَةً مِنْ غَيْرِ سَبْقِ أَمَارَةٍ فَلَا تَغْتَرُّوا بِأَحْوَالِكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما كانَ دَعْواهُمْ إلى آخر الآية قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الدَّعْوَى اسْمٌ يَقُومُ مَقَامَ الِادِّعَاءِ وَمَقَامَ الدُّعَاءِ. حَكَى سِيبَوَيْهِ: اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا كَانَ تَضَرُّعُهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالظُّلْمِ وَالْإِقْرَارَ بِالْإِسَاءَةِ وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا الِاخْتِيَارُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ (أَنْ) رَفْعًا بِكَانَ وَيَكُونَ قَوْلُهُ: دَعْواهُمْ نَصْبًا كَقَوْلِهِ: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا
النَّمْلِ: 56 وَقَوْلِهِ:
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ الْحَشْرِ: 17 وَقَوْلُهُ: مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ الْجَاثِيَةِ: 25 قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ