لَهُ إِذَا أَظْهَرَ الذُّلَّ لَهُ فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ «وَالْخُفْيَةُ» ضِدُّ الْعَلَانِيَةِ. يُقَالُ: أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ، وَيُقَالُ:
خُفْيَةً أَيْضًا بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحْدَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ خفية بكسر الخاء هاهنا وَفِي الْأَنْعَامِ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ:
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِخْفَاءَ مُعْتَبَرٌ فِي الدُّعَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالدُّعَاءِ مَقْرُونًا بِالْإِخْفَاءِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْوُجُوبُ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ نَدْبًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي تَرْكِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا التَّضَرُّعُ وَالْإِخْفَاءُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ فِي الدُّعَاءِ التَّضَرُّعَ وَالْإِخْفَاءَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُثِيبُهُ الْبَتَّةَ، وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ لَا مَحَالَةَ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كَالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى تَرْكِ التَّضَرُّعِ وَالْإِخْفَاءِ فِي الدُّعَاءِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا فَقَالَ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا مَرْيَمَ: 3 أَيْ أَخْفَاهُ عَنِ الْعِبَادِ وَأَخْلَصَهُ لِلَّهِ وَانْقَطَعَ بِهِ إِلَيْهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا
رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَزَاةٍ فَأَشْرَفُوا عَلَى وَادٍ فَجَعَلُوا يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ رَافِعِي أَصْوَاتِهِمْ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ارْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَإِنَّهُ لَمَعَكُمْ» .
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَعْوَةٌ فِي السِّرِّ تَعْدِلُ سَبْعِينَ دَعْوَةً فِي الْعَلَانِيَةِ»
وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي»
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ جَارُهُ، يَفْقَهُ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَيُصَلِّي الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي لَيْلِهِ وَعِنْدَهُ الزَّائِرُونَ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِخْفَاءِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ إِلَّا هَمْسًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وَذَكَرَ اللَّهُ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا فَقَالَ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا مَرْيَمَ: 3 .
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: الْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ شَدِيدَةُ الْمَيْلِ عَظِيمَةُ الرَّغْبَةِ فِي الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَإِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فِي الدُّعَاءِ امْتَزَجَ الرِّيَاءُ بِذَلِكَ الدُّعَاءِ فَلَا يَبْقَى فِيهِ فَائِدَةٌ الْبَتَّةَ، فَكَانَ الْأَوْلَى إخفاء الدعاء ليبقى مصونا عن الرياء وهاهنا مَسَائِلُ عَظُمَ اخْتِلَافُ أَرْبَابِ الطَّرِيقَةِ فِيهَا، وَهِيَ: أَنَّهُ هَلِ الْأَوْلَى إِخْفَاءُ الْعِبَادَاتِ أَمْ إِظْهَارُهَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْأَوْلَى إِخْفَاؤُهَا صَوْنًا لَهَا عَنِ الرِّيَاءِ وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَوْلَى إِظْهَارُهَا لِيَرْغَبَ الْغَيْرُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَدَاءِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الرِّيَاءِ الْأَوْلَى الْإِخْفَاءُ صَوْنًا لِعَمَلِهِ عَنِ الْبُطْلَانِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الصَّفَاءِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ إِلَى حَيْثُ صَارَ آمِنًا عَنْ شَائِبَةِ الرِّيَاءِ كَانَ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِ الْإِظْهَارَ لِتَحْصُلْ فَائِدَةُ الِاقْتِدَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ، إِخْفَاءُ التَّأْمِينِ أَفْضَلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِعْلَانُهُ أَفْضَلُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، قَالَ: فِي قَوْلِهِ: «آمِينَ» وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دُعَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ أسماء