بِامْتِنَاعِ وُقُوعِهَا عَلِمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَاسِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي زَمَانِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ أَيْضًا بِهِ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ تَنْقَلِبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا جَازَ فِي الشَّخْصِ الَّذِي شَاهَدْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الشَّخْصَ الْأَوَّلَ بَلِ اللَّهُ أَعْدَمَ الشَّخْصَ الْأَوَّلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَوْجَدَ شَخْصًا آخَرَ يُسَاوِيهِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ الْآنَ هُوَ الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِالْأَمْسِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ وُقُوعُ الشَّكِّ فِي الَّذِينَ رَأَوْا مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هَلْ هُوَ الَّذِي رَأَوْهُ بِالْأَمْسِ أَمْ لَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَمَانَ جَوَازِ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا أَنَّهُ زَمَانُ جَوَازِ الْكَرَامَاتِ عِنْدَكُمْ فَيَلْزَمُكُمْ تَجْوِيزُهُ فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَجْوِيزِ انْقِلَابِ الْعَادَاتِ عَنْ مَجَارِيهَا صَعْبٌ مُشْكِلٌ وَالْعُقَلَاءُ اضْطَرَبُوا فِيهِ وَحَصَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا/ تَوَلُّدَ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ وَلَا أَصْلٍ وَلَا تَرْبِيَةٍ وَجَوَّزُوا فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا عَاقِلًا قَاهِرًا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ بِنْيَةٍ وَلَا مِزَاجٍ وَلَا رُطُوبَةٍ وَلَا تَرْكِيبٍ وَجَوَّزُوا فِي الْأَعْمَى الَّذِي يَكُونُ بِالْأَنْدَلُسِ أَنْ يُبْصِرَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبُقْعَةَ الَّتِي تَكُونُ بِأَقْصَى الْمَشْرِقِ مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَكُونُ سَلِيمَ الْبَصَرِ لَا يَرَى الشَّمْسَ الطَّالِعَةَ فِي ضِيَاءِ النَّهَارِ فَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَدُخُولُهَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ وَالطَّرِيقِ الْمُعَيَّنِ. وَقَالُوا: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ دَفَعْنَا عَنْ أَنْفُسِنَا الْتِزَامَ الْجَهَالَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْمُحَالَاتِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ لُزُومًا لَا دَافِعَ لَهُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي عَالَمِنَا هَذَا إِمَّا أَنْ تَحْدُثَ لَا لِمُؤَثِّرٍ أَوْ لِمُؤَثِّرٍ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَالْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَازِمٌ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تَحْدُثُ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ إِلَّا أَنَّ مَعَ تَجْوِيزِهِ فَالْإِلْزَامُ الْمَذْكُورُ لَازِمٌ لِأَنَّا إِذَا جَوَّزْنَا حُدُوثَ الْأَشْيَاءِ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ وَلَا عَنْ مُوجِدٍ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمَانُ مِنْ تَجْوِيزِ حُدُوثِ إِنْسَانٍ لَا عَنِ الْأَبَوَيْنِ وَمِنْ تَجْوِيزِ انْقِلَابِ الْجَبَلِ ذَهَبًا وَالْبَحْرِ دَمًا؟ فَإِنَّ تَجْوِيزَ حُدُوثِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ لَيْسَ أَبْعَدَ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْ تَجْوِيزِ حُدُوثِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لَا عَنْ مُؤَثِّرٍ فَثَبَتَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْإِلْزَامَ الْمَذْكُورَ لَازِمٌ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ إِثْبَاتُ مُؤَثِّرٍ وَمُدَبِّرٍ لِهَذَا الْعَالَمِ فَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَالْإِلْزَامَاتُ الْمَذْكُورَةُ لَازِمَةٌ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤَثِّرًا وَمُرَجِّحُهُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ وَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِالْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْكَالِ الْفَلَكِيَّةِ تَخْتَلِفُ حَوَادِثُ هَذَا الْعَالَمِ إِذْ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا الْمَعْنَى لَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْقَدِيمَةُ الدَّائِمَةُ سَبَبًا لِحُدُوثِ الْمَعْلُولِ الْحَادِثِ الْمُتَغَيِّرِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَيْفَ الْأَمَانُ مِنْ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْفَلَكِ شَكْلٌ غَرِيبٌ يَقْتَضِي حُدُوثَ إِنْسَانٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا عَنِ الْأَبَوَيْنِ وَانْتِقَالَ مَادَّةِ الْجَبَلِ مِنَ الصُّورَةِ الْجَبَلِيَّةِ إِلَى الصُّورَةِ الذَّهَبِيَّةِ أَوْ لِلصُّورَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ؟ وَحِينَئِذٍ تَعُودُ جَمِيعُ الْإِلْزَامَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرُ الْعَالِمِ وَمُرَجِّحُهُ فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا