رَهْطِهِ وَشِيعَتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ نَقْتُلَ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَرْكُ مُوسَى وَقَوْمِهِ لَا مِنْ عَجْزٍ وَخَوْفٍ وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْبَطْشَ لَقَدَرَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يُوهِمُ قَوْمَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ لِعَدَمِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهِ وَلِعَدَمِ خَوْفِهِ مِنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ ابْتِدَاءً عِنْدَ وِلَادَةِ مُوسَى وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ مُنِعَ مِنْهُ وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ وَقَعَ فِي غَيْرِ الزَّمَانِ الْأَوَّلِ ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الْمَلَأُ لِفِرْعَوْنَ وَالَّذِي قَالَ فِرْعَوْنُ لَهُمْ قَدْ عَرَفَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فَهَهُنَا أَمَرَهُمْ بِشَيْئَيْنِ وبشرهم بشيئين. اما الذان أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِمَا فَالْأَوَّلُ: الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: الصَّبْرُ عَلَى بَلَاءِ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ فِي الْعَالَمِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْوَاعُ الْبَلَاءِ وَلِأَنَّهُ يَرَى عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا حصل بقضاء تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ. وَاسْتِعْدَادُهُ بِمُشَاهَدَةِ قَضَاءِ اللَّهِ خَفَّفَ عليه انواع البلاء واما الذان بَشَّرَ بِهِمَا فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهَذَا إِطْمَاعٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ فِي أَنْ يُورِثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَرْضَ فِرْعَوْنَ بَعْدَ إِهْلَاكِهِ وَذَلِكَ مَعْنَى الْإِرْثِ وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ لِلْخَلَفِ بَعْدَ السَّلَفِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ أَمْرُ الْآخِرَةِ فَقَطْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَمْرُ الدُّنْيَا فَقَطْ وَهُوَ: الْفَتْحُ وَالظَّفَرُ وَالنَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ وَقَوْلُهُ: لِلْمُتَّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى وَخَافَهُ فَاللَّهُ يُعِينُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
سورة الأعراف (7) : آية 129قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعُوا مَا ذَكَرَهُ فِرْعَوْنُ مِنَ التَّهْدِيدِ والوعيد خافوا وفزعوا وَقَالُوا قَدْ أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَبْلَ/ مَجِيءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَضْعَفِينَ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ اللَّعِينِ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ وَيَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوِيَ رَجَاؤُهُمْ فِي زَوَالِ تِلْكَ الْمَضَارِّ وَالْمَتَاعِبِ فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ أَعَادَ التَّهْدِيدَ مَرَّةً ثَانِيَةً عَظُمَ خَوْفُهُمْ وَحُزْنُهُمْ فَقَالُوا هَذَا الْكَلَامَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَرِهُوا مَجِيءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ يُوجِبُ كُفْرَهُمْ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ وَعَدَهُمْ بِزَوَالِ تِلْكَ الْمَضَارِّ فَظَنُّوا أَنَّهَا تَزُولُ عَلَى الْفَوْرِ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهَا مَا زَالَتْ رَجَعُوا إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْوَعْدِ فَبَيَّنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْوَعْدَ بِإِزَالَتِهَا لَا يُوجِبُ الْوَعْدَ بِإِزَالَتِهَا فِي الْحَالِ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى سَيُنْجِزُ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَعْدَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مَا كَانَ بِنَفْرَةٍ عَنْ مَجِيءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ بَلِ اسْتِكْشَافًا لِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْوَعْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَسى رَبُّكُمْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: (عَسَى) طَمَعٌ وَإِشْفَاقٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا يَطْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.