أَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُونَ فَلَمَّا هَلَكَ فِرْعَوْنُ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ الْكِتَابَ فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذِكْرُ تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فان قيل: وما الحكمة هاهنا فِي ذِكْرِ الثَّلَاثِينَ ثُمَّ إِتْمَامِهَا بِعَشْرٍ؟ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً كَلَامٌ عَارٍ عَنِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّلَاثِينَ مَعَ الْعَشْرِ يَكُونُ أَرْبَعِينَ.
قُلْنَا: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصَوْمِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمَّا أَتَمَّ الثَّلَاثِينَ أَنْكَرَ خُلُوفَ فِيهِ فَتَسَوَّكَ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ كُنَّا نَشَمُّ مِنْ فِيكَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ فَأَفْسَدْتَهُ بِالسِّوَاكِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدِي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِهَذَا السَّبَبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّفْضِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَأَنْ يَعْمَلَ فِيهَا مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي وَكَلَّمَهُ أَيْضًا فِيهِ. فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي تَفْصِيلِ الْأَرْبَعِينَ إِلَى الثَّلَاثِينَ وَإِلَى الْعَشْرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي سُورَةِ طه مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَادَرَ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ قَبْلَ قَوْمِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَتَى الطُّورَ عِنْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِينَ فَلَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَ قَوْمِهِ مَعَ السَّامِرِيِّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ قَبْلَ تَمَامِ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ فِي عَشْرَةٍ أُخْرَى فَتَمَّ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ الْأَوَّلُ حَضَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ وَالْوَعْدُ الثَّانِي حَضَرَ الْمُخْتَارُونَ مَعَهُ لِيَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ الْوَعْدُ مُخْتَلِفًا لِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَاضِرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ازالة التوهم أَنَّ ذَلِكَ الْعَشْرَ مِنَ الثَّلَاثِينَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ مِنَ الثَّلَاثِينَ كَأَنَّهُ كَانَ عِشْرِينَ ثُمَّ أَتَمَّهُ بِعَشْرٍ فَصَارَ ثَلَاثِينَ فَأَزَالَ هَذَا الْإِيهَامَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَبَيْنَ الْوَقْتِ أَنَّ الْمِيقَاتَ مَا قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْوَقْتَ وَقْتٌ للشيء قدرة مُقَدَّرٍ أَوَّلًا.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ تَمَّ بَالِغًا هَذَا الْعَدَدَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ إلى آخر الآية فَقَوْلُهُ: هارُونَ عَطْفُ بَيَانٍ لِأَخِيهِ وَقُرِئَ بِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كُنْ خَلِيفَتِي فِيهِمْ وَأَصْلِحْ وَكُنْ مُصْلِحًا أَوْ وَأَصْلِحْ مَا يَجِبُ أَنْ يَصْلُحَ مِنْ أُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ دَعَاكَ مِنْهُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ فَلَا تَتْبَعْهُ وَلَا تُطِعْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَارُونَ كَانَ شَرِيكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ جَعَلَهُ خَلِيفَةً لِنَفْسِهِ فَإِنَّ شَرِيكَ