إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ النَّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَتْ هَذِهِ النَّفْرَةُ وَالْعَدَاوَةُ فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ مَعَ تِلْكَ النَّفْرَةِ الرَّاسِخَةِ وَالْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ تَحْصِيلُ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْجَبْرِ لُزُومًا لَا مَحِيصَ عَنْهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ خُطْبَةٌ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
رَوَى الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ «مناقب الشافعي» رضي اللَّه تعالى عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ/ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ وَأَعْجَبُ مَا فِي الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ فِيهِ مَوَادٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَأَضْدَادِهَا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَوْلَهَهُ الطَّمَعُ، وَإِنْ هَاجَ لَهُ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ، وَإِنْ أَهْلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ، وَإِنْ سَعِدَ بِالرِّضَا شَقِيَ بِالسُّخْطِ، وَإِنْ نَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحُزْنُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ الْمُصِيبَةُ قَتَلَهُ الْجَزَعُ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا أَطْغَاهُ الْغِنَى، وَإِنْ عَضَّتْهُ فَاقَةٌ شَغَلَهُ الْبَلَاءُ، وَإِنْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ، فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَكُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ
وَأَقُولُ: هَذَا الْفَصْلُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ، وَهُوَ كَالْمُطَّلِعِ عَلَى سِرِّ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، لِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ مَرْبُوطَةٌ بِأَحْوَالِ الْقُلُوبِ، وَكُلُّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ فَإِنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى حَصَلَتْ قَبْلَهَا، وَإِذَا وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْجَبْرِ، وَذَكَرَ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ» فَصْلًا فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ الْجَبْرِ.
ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قِيلَ: إِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي أَنِّي إِنْ شِئْتُ الْفِعْلَ فَعَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُ التَّرْكَ تَرَكْتُ، فَيَكُونُ فِعْلِي حَاصِلًا بِي لَا بِغَيْرِي ثُمَّ قَالَ: وَهَبْ أَنَّكَ وَجَدْتَ مِنْ نَفْسِكَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: وَهَلْ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَشَاءَ شَيْئًا شِئْتَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ لَا تَشَاءَ لَمْ تَشَأْهُ، مَا أَظُنُّكَ أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَذَهَبَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ: بَلْ شِئْتَ أَوْ لَمْ تَشَأْ فَإِنَّكَ تَشَاءُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَإِذَا شِئْتَهُ فَشِئْتَ أَوْ لَمْ تَشَأْ فَعَلْتَهُ، فَلَا مَشِيئَتَكَ بِهِ وَلَا حُصُولَ فِعْلِكَ بَعْدَ حُصُولِ مَشِيئَتِكَ بِكَ فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ هُوَ الْقَلْبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْفِقْهُ وَالْفَهْمُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ مَحَلُّ الْفَهْمِ وَالْفِقْهِ هُوَ الْقَلْبُ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ مُتَشَارِكَةٌ فِي قُوَى الطَّبِيعَةِ الْغَاذِيَةِ وَالنَّامِيَةِ وَالْمُوَلِّدَةِ، وَمُتَشَارِكَةٌ أَيْضًا فِي مَنَافِعِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَفِي أَحْوَالِ التَّخَيُّلِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ الَّتِي تَهْدِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ: فَلَمَّا أَعْرَضَ الْكُفَّارُ عَنِ اعْتِبَارِ أَحْوَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرِ كَانُوا كَالْأَنْعَامِ.
ثُمَّ قَالَ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ، وَالْإِنْسَانُ أُعْطِيَ الْقُدْرَةَ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهَا كَانَ أَخَصَّ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَكْتَسِبْهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهَا. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ وَقَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ:
الرُّوحُ عِنْدَ إِلَهِ الْعَرْشِ مَبْدَؤُهُ
... وَتُرْبَةُ الْأَرْضِ أَصْلُ الْجِسْمِ وَالْبَدَنِ
قَدْ أَلَّفَ الْمَلِكُ الْحَنَّانُ بَيْنَهُمَا
... لِيَصْلُحَا لِقَبُولِ الْأَمْرِ وَالْمِحَنِ
فَالرُّوحُ فِي غُرْبَةٍ وَالْجِسْمُ فِي وَطَنٍ
... فَاعْرِفْ ذِمَامَ الْغَرِيبِ النَّازِحِ الْوَطَنِ