سَمَاعِ هَذَا الِاسْمِ يَتَذَكَّرُ الْعَبْدُ أَقْسَامَ نِعَمِ اللَّه عَلَيْهِ، وَبِالْحَقِيقَةِ لَا يَصِلُ عَقْلُهُ إِلَى أَقَلِّ أَقْسَامِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِبْرَاهِيمَ: 34 فَعِنْدَ انْكِشَافِ هَذَا الْمَقَامِ فِي الْقَلْبِ يَقْوَى الرَّجَاءُ، فَإِذَا سَمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً عَظُمَ الْخَوْفُ، وَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مُوجِبَاتُ الرَّجَاءِ وَمُوجِبَاتُ الْخَوْفِ، وَعِنْدَهُ يَكْمُلُ الْإِيمَانُ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ ورجاؤه لاعتدلا»
إلا أن هنا دَقِيقَةً، وَهِيَ أَنَّ سَمَاعَ لَفْظِ الرَّبِّ يُوجِبُ الرَّجَاءَ وَسَمَاعَ لَفْظِ التَّضَرُّعِ وَالْخِيفَةِ يُوجِبُ الْخَوْفَ، فَلَمَّا وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِمَا يُوجِبُ الرَّجَاءَ، عَلِمْنَا أَنْ جَانِبَ الرَّجَاءِ أَقْوَى.
الْقَيْدُ الثَّانِي: مِنَ الْقُيُودِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الذِّكْرِ حُصُولُ التَّضَرُّعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَضَرُّعاً وَهَذَا الْقَيْدُ مُعْتَبَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً الْأَنْعَامِ: 63 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِانْكِشَافِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عِزَّةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ، إِنَّمَا يَتِمُّ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الثَّانِي: بِمُشَاهَدَةِ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكْمُلُ بِقَوْلِهِ: تَضَرُّعاً فَالِانْتِقَالُ مِنَ الذِّكْرِ إِلَى التَّضَرُّعِ يُشْبِهُ النُّزُولَ مِنَ الْمِعْرَاجِ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ التَّضَرُّعِ إِلَى الذِّكْرِ يُشْبِهُ الصُّعُودَ، وَبِهِمَا يَتِمُّ معراج الأرواح القدسية وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه مِنْ لَوَازِمِهَا التَّضَرُّعُ، وَالْخَوْفُ، وَالذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ يَمْتَنِعُ انْفِكَاكُهُ عَنِ التَّضَرُّعِ وَالْخَوْفِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا التَّضَرُّعِ وَالْخَوْفِ؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَلْزَمُهَا التَّضَرُّعُ وَالْخَوْفُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَحْكَمَ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ إِيذَاءٌ لِلْغَيْرِ، وَلَا فَائِدَةَ لِلْحَقِّ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُعَذِّبُ فَإِذَا اعْتَقَدَ هَذَا، لَمْ يَكْمُلِ التَّضَرُّعُ وَالْخَوْفُ. فَلِهَذَا السَّبَبِ نَصَّ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: خَوْفُ الْعِقَابِ، وهو مقام المبتدين. وَالثَّانِي: خَوْفُ الْجَلَالِ وَهُوَ مَقَامُ الْمُحَقِّقِينَ، وَهَذَا الْخَوْفُ مُمْتَنِعُ الزَّوَالِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِجَلَالِ اللَّه كَانَ هَذَا الْخَوْفُ فِي قَلْبِهِ أَكْمَلَ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ لِأَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ مَقَامَيْنِ: مُكَاشَفَةُ الْجَمَالِ، وَمُكَاشَفَةُ/ الْجَلَالِ، فَإِذَا كُوشِفُوا بِالْجَمَالِ عَاشُوا، وَإِذَا كُوشِفُوا بِالْجَلَالِ طَاشُوا، وَلَا بُدَّ فِي مَقَامِ الذِّكْرِ مِنْ رِعَايَةِ الْجَانِبَيْنِ.
الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَخِيفَةً وَفِي قِرَاءَةٍ أخرى وَخِيفَةً وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهَا «خِوْفَةً» فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، أَقُولُ هَذَا الْخَوْفُ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: خَوْفُ التَّقْصِيرِ فِي الْأَعْمَالِ. وَثَانِيهَا: خَوْفُ الْخَاتِمَةِ. وَالْمُحَقِّقُونَ خَوْفُهُمْ مِنَ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْخَاتِمَةِ مَا سَبَقَ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَلِذَلِكَ
كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
وَثَالِثُهَا: خَوْفُ أَنِّي كَيْفَ أُقَابِلُ نِعْمَةَ اللَّه الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا وَلَا حَدَّ بِطَاعَاتِي النَّاقِصَةِ وَأَذْكَارِي الْقَاصِرَةِ؟ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ يَقُولُ: الشُّكْرُ شِرْكٌ، فَسَأَلُونِي عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقُلْتُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ واللَّه أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ حَاوَلَ مُقَابَلَةَ وُجُوهِ إِحْسَانِ اللَّه بِشُكْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ.
لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: مِنْكَ النِّعْمَةُ وَمِنِّي الشُّكْرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا شِرْكٌ، فَأَمَّا إِذَا أَتَى بِالشُّكْرِ مَعَ خَوْفِ التَّقْصِيرِ وَمَعَ الِاعْتِرَافِ بِالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، فَهُنَاكَ يُشَمُّ فِيهِ رَائِحَةُ الْعُبُودِيَّةِ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَخُفْيَةً فَالْإِخْفَاءُ فِي حَقِّ الْمُبْتَدِينَ يُرَادُ لِصَوْنِ الطَّاعَاتِ عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَفِي حَقِّ الْمُنْتَهِينَ الْمُقَرَّبِينَ مَنْشَؤُهُ الْغَيْرَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ أَوْجَبَتِ الْغَيْرَةَ، فَإِذَا كَمُلَ هَذَا التَّوَغُّلُ وَحَصَلَ الْفَنَاءُ، وَقَعَ الذِّكْرُ فِي حِينِ الْإِخْفَاءِ بِنَاءً عَلَى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ اللَّه كَلَّ لِسَانُهُ» .