الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقُرْبُ بِالشَّرَفِ لَا الْقُرْبُ بِالْجِهَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا تَشْرِيفٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِإِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّه مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَسْكَنَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ وَجَعَلَهُ مَنْزِلَ الْأَنْوَارِ وَمَصْعَدَ الْأَرْوَاحِ وَالطَّاعَاتِ وَالْكَرَامَاتِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ جَيْشًا عَظِيمًا، وَإِنْ كانوا متفرقين في البلد، فكذا هاهنا. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَالْمَعْنَى فَأَنْتَ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلَ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ مِنْ طَاعَاتِهِمْ أَوَّلًا كَوْنَهُمْ يُسَبِّحُونَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ التَّسْبِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّه تَعَالَى مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ التَّسْبِيحَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ السُّجُودِ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَلَهُ يَسْجُدُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَسْجُدُونَ لِغَيْرِ اللَّه.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ الْحِجْرِ: 30 ص: 73 وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا لِآدَمَ؟
وَالْجَوَابُ: قَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ: الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ. فَأَمَّا عظماء ملائكة السموات فَلَا.
وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ يَسْجُدُونَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ مَا سَجَدُوا لِغَيْرِ اللَّه، فَهَذَا يُفِيدُ الْعُمُومَ. وَقَوْلُهُ: فَسَجَدُوا لِآدَمَ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ مُسْتَغْرِقِينَ فِي الْعُبُودِيَّةِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ:
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ الصَّافَّاتِ: 165، 166 وَقَوْلِهِ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ الزُّمَرِ: 75 واللَّه أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً.