أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ فَالدَّابِرُ الْآخِرُ فَاعِلٌ مِنْ دَبَرَ إِذَا أَدْبَرَ، وَمِنْهُ دَابِرَةُ الطَّائِرِ وَقَطْعُ الدَّابِرِ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِئْصَالِ، وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ الْعِيرَ لِلْفَوْزِ بِالْمَالِ، واللَّه تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ تَتَوَجَّهُوا إِلَى النَّفِيرِ، لِمَا فِيهِ من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين.
سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يُحِقُّ الْحَقَّ وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ، بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إِذْ هُوَ قَوْلُهُ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَتَكُونُ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةً عَلَى تَقْدِيرِ وَاذْكُرُوا إِذْ تَسْتَغِيثُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِغَاثَةَ كَانَتْ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَنَظَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَإِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَمَدَّ يَدَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ وَرَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ الْتَزَمَهُ ثُمَّ قَالَ: كَفَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّه مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَمَّا اصْطَفَّتِ/ الْقَوْمُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّه يَدَهُ بِالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِغَاثَةَ كَانَتْ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَقْدَمَ الرَّسُولُ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ كَانَ حَاصِلًا فِيهِمْ، بَلْ خَوْفُهُمْ كَانَ أَشَدَّ مِنْ خَوْفِ الرَّسُولِ، فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَضَّرَّعَ عَلَى مَا رُوِيَ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ تَابِعِينَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ فِي أَنْفُسِهِمْ فَنَقَلَ دُعَاءَ رَسُولِ اللَّه لِأَنَّهُ رَفَعَ بِذَلِكَ الدُّعَاءِ صَوْتَهُ، وَلَمْ يَنْقُلْ دُعَاءَ الْقَوْمِ، فَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أَيْ تَطْلُبُونَ الْإِغَاثَةَ يَقُولُ الْوَاقِعُ فِي بَلِيَّةٍ أغثني أي فرج عني.
في قوله تعالى أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمُ الِاسْتِغَاثَةَ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَهُمْ. وَقَالَ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ أَصْلُهُ بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ، فَحَذَفَ الْجَارَّ وَسَلَّطَ عَلَيْهِ اسْتَجَابَ، فَنَصَبَ مَحَلَّهُ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّهُ قَرَأَ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِالْكَسْرِ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ اسْتَجَابَ مَجْرَى قَالَ لِأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ مِنَ الْقَوْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُرْدِفِينَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ:
مُرْدِفِينَ أَيْ مُتَتَابِعِينَ يَأْتِي بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ كَالْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْدِفُوا عَلَى الدَّوَابِّ ومُرْدِفِينَ أَيْ فُعِلَ بِهِمْ