ذَلِكَ الْمَطَرَ لَبَّدَ ذَلِكَ الرَّمْلَ وَصَيَّرَهُ بِحَيْثُ لَا تَغُوصُ أَرْجُلُهُمْ فِيهِ، فَقَدَرُوا عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ كَيْفَ أَرَادُوا، وَلَوْلَا هَذَا الْمَطَرُ لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَطَرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ رَبْطَ قُلُوبِهِمْ أَوْجَبَ ثَبَاتَ أَقْدَامِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ ضَعِيفًا فَرَّ وَلَمْ يَقِفْ، فَلَمَّا قَوَّى اللَّه تَعَالَى قُلُوبَهُمْ لَا جَرَمَ ثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ عَائِدٌ إِلَى الرَّبْطِ. وَثَالِثُهَا: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ حَصَلَ لِلْكَافِرِينَ ضِدُّ مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَزَلَ الْكُفَّارُ فِيهِ كَانَ مَوْضِعَ التُّرَابِ وَالْوَحْلِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ عَظُمَ الْوَحْلُ، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْمَشْيِ كَيْفَمَا أَرَادُوا فَقَوْلُهُ: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ يَدُلُّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ حَالَ الْأَعْدَاءِ كَانَتْ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
في قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا النوع الخامس: من النعم المذكورة هاهنا قَوْلُهُ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ/ الْأَقْدَامَ حَالَ مَا يُوحِي إِلَى الملائكة بكذا وكذا، ويجوز أيضاً أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ اذْكُرُوا. الثَّانِي: قَوْلُهُ: أَنِّي مَعَكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأ للمسلمين.
والثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَانْصُرُوهُمْ وَثَبِّتُوهُمْ، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِزَالَةُ التَّخْوِيفِ وَالْمَلَائِكَةُ مَا كَانُوا يَخَافُونَ الْكُفَّارَ، وَإِنَّمَا الْخَائِفُ هُمُ الْمُسْلِمُونَ.
ثُمَّ قَالَ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّثْبِيتِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ عَرَّفُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّه نَاصِرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّسُولُ عَرَّفَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ التَّثْبِيتُ وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ كَمَا يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْوَسْوَسَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَكَذَلِكَ الْمَلَكُ يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْإِلْهَامِ إِلَيْهِ فَهَذَا هُوَ التَّثْبِيتُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يَتَشَبَّهُونَ بِصُوَرِ رِجَالٍ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَكَانُوا يَمُدُّونَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ.
في قوله تعالى سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وَالنَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وَهَذَا مِنَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمِيرَ النَّفْسِ هُوَ الْقَلْبُ فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ رَبَطَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَوَّاهَا وَأَزَالَ الْخَوْفَ عَنْهَا ذَكَرَ أَنَّهُ أَلْقَى الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ فَكَانَ ذَلِكَ من أعظم نعم اللَّه تعالى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَثَبِّتُوا وَقِيلَ: بَلْ أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ لِأَجْلِ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعُ مُوجِبَاتِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا فَوْقَ الْعُنُقِ هُوَ الرَّأْسُ، فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِإِزَالَةِ الرَّأْسِ عَنِ الْجَسَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أَيْ فَاضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ.
ثُمَّ قَالَ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يَعْنِي الْأَطْرَافَ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ المراد أن يضربوهم كما شاؤوا، لِأَنَّ مَا فَوْقَ الْعُنُقِ هُوَ الرَّأْسُ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَالْبَنَانُ عِبَارَةٌ عَنْ أَضْعَفِ الْأَعْضَاءِ، فَذَكَرَ الْأَشْرَفَ وَالْأَخَسَّ تَنْبِيهًا عَلَى كُلِّ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ إِمَّا الْقَتْلُ، وَهُوَ ضَرْبُ مَا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ أَوْ قَطْعُ الْبَنَانِ، لِأَنَّ الْأَصَابِعَ هِيَ الْآلَاتُ فِي أَخْذِ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَسَائِرِ الْأَسْلِحَةِ، فَإِذَا قَطَعَ بَنَانَهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْمُحَارَبَةِ.