فِي طَلَبِهِ وَمَيْلُهُ إِلَى تَحْصِيلِهِ أَشَدَّ، فَثَبَتَ أَنَّ تَكْثِيرَ الْمَالِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْحِرْصِ فِي الطَّلَبِ، فَالْحِرْصُ مُتْعِبٌ لِلرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْقَلْبِ وَضَرَرُهُ شَدِيدٌ، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْإِضْرَارِ بِالنَّفْسِ وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْمَالُ أَكْثَرَ كَانَ الْحِرْصُ أَشَدَّ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ كَانَ يَنْتَهِي طَلَبُ الْمَالِ إِلَى حَدٍّ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ الطَّلَبُ وَيَزُولُ الْحِرْصُ، لَقَدْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَسْعَى فِي الْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ. أَمَّا لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ تَمَلُّكُ الْأَمْوَالِ أَكْثَرَ كَانَ الضَّرَرُ النَّاشِئُ مِنَ الْحِرْصِ أَكْبَرَ، وَأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِهَذَا الضَّرَرِ وَلِهَذَا الطَّلَبِ، فَوَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُكَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ:
رَأَى الْأَمْرَ يُفْضِي إِلَى آخَرَ
... فَيُصَيَّرُ آخِرُهُ أَوَّلَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَسْبَ الْمَالِ شَاقٌّ شَدِيدٌ، وَحِفْظَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ أَشَدُّ وَأَشَقُّ وَأَصْعَبُ، فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ طُولَ عُمُرِهِ تَارَةً فِي طَلَبِ التَّحْصِيلِ، وَأُخْرَى فِي تَعَبِ الْحِفْظِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا بِالْقَلِيلِ وَبِالْآخَرِ يَتْرُكُهَا مَعَ الْحَسَرَاتِ وَالزَّفَرَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ تُورِثُ الطُّغْيَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ/ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى الْعَلَقِ: 6، 7 وَالطُّغْيَانُ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْعَبْدِ إِلَى مَقَامِ رِضْوَانِ الرَّحْمَنِ، وَيُوقِعُهُ فِي الْخُسْرَانِ وَالْخِذْلَانِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ سَعْيٌ فِي تَنْقِيصِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ تَكْثِيرُهُ فَضِيلَةً لَمَا سَعَى الشَّرْعُ فِي تَنْقِيصِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» .
قُلْنَا: الْيَدُ الْعُلْيَا إِنَّمَا أَفَادَتْهُ صِفَةَ الْخَيْرِيَّةِ، لِأَنَّهُ أَعْطَى ذَلِكَ الْقَلِيلَ، فَبِسَبَبِ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ماله ذلك النقصان القليلة حَصَلَتْ لَهُ الْخَيْرِيَّةُ، وَبِسَبَبِ أَنَّهُ حَصَلَ لِلْفَقِيرِ تلك الزيادة القليل حَصَلَتِ الْمَرْجُوحِيَّةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ فِي وَعِيدِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، أَمَّا مَنْعُ زَكَاةِ النُّقُودِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ وَأَمَّا مَنْعُ زَكَاةِ الْمَوَاشِي فَمَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ أَصْحَابَ الْمَوَاشِي إِذَا لَمْ يُؤَدُّوا زَكَاتَهَا بِأَنْ يَسُوقَ إِلَيْهِ تِلْكَ الْمَوَاشِيَ كَأَعْظَمِ مَا تَكُونُ فِي أَجْسَامِهَا فَتَمُرُّ عَلَى أَرْبَابِهَا فَتَطَؤُهُمْ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُمْ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ إِلَيْهِمْ أُولَاهَا فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَفْرَغَ النَّاسُ مِنَ الْحِسَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَعِيدُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ لَا النِّسَاءَ.
قُلْنَا: نَتَكَلَّمُ فِي الرَّجُلِ الَّذِي اتَّخَذَ الْحُلِيَّ لِنِسَائِهِ، وَأَيْضًا تَرْتِيبُ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى جَمْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ، وَهُوَ أَنَّ جَمْعَ ذَلِكَ الْمَالِ يَمْنَعُهُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، إِذْ لَوِ احْتَاجَ إِلَى إِنْفَاقِهِ لَمَا قَدَرَ عَلَى جَمْعِهِ، وَإِقْدَامُ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ مِنَ الْمُحْتَاجِ يُنَاسِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلَى وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ عَقِيبَ وَصْفٍ يُنَاسِبُهُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُعَلَّلًا بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لِذَلِكَ الْجَمْعِ، فَأَيْنَمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْوَصْفُ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ، وأيضا