وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَمَّا عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ تَعَلَّمَ صِفَةَ الْكَبِيسَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَظْهَرَ ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: عِدَّةَ الشُّهُورِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: اثْنا عَشَرَ شَهْراً وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَقُولُ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: عِدَّةَ الشُّهُورِ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: / اثْنا عَشَرَ شَهْراً خَبَرٌ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ظُرُوفٌ أُبْدِلَ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ. وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْإِبْدَالَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ تَقْرِيرُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ وَاجِبٌ مُتَقَرِّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَالَمَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي كِتابِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ يَكُونُ صِفَةً لِلْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مُثْبَتَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ لَا يجوز أن يكون المراد بهذا الكتاب كتاب مِنَ الْكُتُبِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَأَسْمَاءُ الْأَعْيَانِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالظُّرُوفِ، فَلَا تَقُولُ: غُلَامُكَ يَوْمَ الجمعة، بل الكتاب هاهنا مَصْدَرٌ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ في حكمه الواقع يوم خلق السموات.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ اسْمًا وَقَوْلُهُ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مَكْتُوبًا فِي كِتَابِ اللَّهِ كَتَبَهُ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَحْكَامِ الْآيَةِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي عِلْمِهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ وَفِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابن عباس: إن اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ أَحْوَالَ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَسْرِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِلْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّنَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مَكْتُوبًا فِي الْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ فِيمَا أَوْجَبَهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَالْكِتَابُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْحُكْمُ وَالْإِيجَابُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ الْبَقَرَةِ: 216 كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ الْبَقَرَةِ: 178 كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الْأَنْعَامِ: 54 قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكِتَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَالظَّرْفِ، وَإِذَا حُمِلَ الْكِتَابُ عَلَى الْحِسَابِ لَمْ يَسْتَقِمْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا، إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ يُقَالُ:
إِنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا فِي حِسَابِ فُلَانٍ وَفِي حُكْمِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وُجُوهًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَالْأَقْرَبُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْحُكْمَ وَحَكَمَ بِهِ يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ حُكْمٌ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ، وَهِيَ ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، وَهُوَ رَجَبٌ، وَمَعْنَى الْحُرُمِ: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيهَا أَشَدُّ عِقَابًا، وَالطَّاعَةَ فِيهَا أَكْثَرُ ثَوَابًا، وَالْعَرَبُ كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا جِدًّا حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَجْزَاءُ الزَّمَانِ مُتَشَابِهَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَا السَّبَبُ فِي هَذَا التمييز؟.