فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ فِي فَرَحِهِمْ بِحُزْنِهِ وَمَكَارِهِهِ فَأَيُّ تَعَلُّقِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِذَلِكَ؟
قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَلِمَ سِرَّ اللَّه فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ»
فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَقَعَ، زَالَتِ الْمُنَازَعَةُ عَنِ النَّفْسِ وَحَصَلَ الرِّضَا بِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا أَيْ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِنَا مِنَ الظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَظْهَرَ لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّ أَحْوَالَ الرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي السُّرُورِ وَالْغَمِّ، إِلَّا أَنَّ فِي الْعَاقِبَةِ الدَّوْلَةَ لَهُمْ وَالْفَتْحَ وَالنَّصْرَ وَالظَّفَرَ مِنْ جَانِبِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اغْتِيَاظًا لِلْمُنَافِقِينَ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْفَرَحِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِذَا صِرْنَا مَغْلُوبِينَ صِرْنَا مُسْتَحِقِّينَ لِلْأَجْرِ الْعَظِيمِ، / وَالثَّوَابِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ صِرْنَا غَالِبِينَ، صِرْنَا مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَفُزْنَا بِالْمَالِ الْكَثِيرِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، صَارَتْ تِلْكَ الْمَصَائِبُ وَالْمُحْزِنَاتُ فِي جَنْبِ هَذَا الْفَوْزِ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ مُتَحَمَّلَةً، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً، إِلَّا أَنَّ الْحَقَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ مَوْلانا وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحْسُنُ مِنْهُ التَّصَرُّفُ فِي الْعَالَمِ كَيْفَ شَاءَ، وَأَرَادَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهُمْ وَخَالِقٌ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلِذَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَوْصَلَ إِلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَصَائِبِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الرِّضَا بِهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى مَوْلَاهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ، فَحَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ، بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَوْلًى لَهُمْ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَبِيدِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَلَا أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا عَظِيمُ الرَّحْمَةِ كَثِيرُ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَكَّلَ الْمُؤْمِنُ فِي الْأَصْلِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقْطَعَ طَمَعَهُ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ حَالَ الْمُنَافِقِينَ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَاللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ الْفَانِيَةِ.
سورة التوبة (9) : آية 52قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ فَرَحِ الْمُنَافِقِينَ بِمَصَائِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى الْغَزْوِ، فَإِنْ صَارَ مَغْلُوبًا مَقْتُولًا فَازَ بِالِاسْمِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّه لِلشُّهَدَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ صَارَ غَالِبًا فَازَ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ الْحَلَالِ وَالِاسْمِ الْجَمِيلِ، وَهِيَ الرُّجُولِيَّةُ وَالشَّوْكَةُ وَالْقُوَّةُ، وَفِي الْآخِرَةِ، بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ إِذَا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ فِي الْحَالِ فِي بَيْتِهِ مَذْمُومًا مَنْسُوبًا إِلَى الْجُبْنِ وَالْفَشَلِ وَضَعْفِ الْقَلْبِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهٍ يُشَارِكُهُ فِيهَا النِّسْوَانُ وَالصِّبْيَانُ وَالْعَاجِزُونَ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ يَكُونُونَ أَبَدًا خَائِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ إِنْ مَاتُوا فَقَدِ انْتَقَلُوا إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي