بِالطَّوَّافِينَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أَحْوَالَ الْمُحْتَاجِ الَّذِي لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا أَشَدُّ مِنْ أَحْوَالِ مَنْ يَحْتَاجُ، ثُمَّ يَسْأَلُ النَّاسَ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ، ظَهَرَ أَنَّ الْفَقِيرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الْمَسْكَنَةَ لَفْظٌ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّكُونِ، فَالْفَقِيرُ إِذَا سَأَلَ النَّاسَ وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِمْ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَتَى تَضَرَّعَ إِلَيْهِمْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا فَقَدْ سَكَنَ قَلْبُهُ، وَزَالَ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْقَلَقُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُجِيبَ بِالرَّدِّ وَمُنِعَ سَكَنَ وَلَمْ يَضْطَرِبْ وَأَعَادَ السُّؤَالَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ الْتَمَسْكُنَ كِنَايَةً عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّضَرُّعِ عِنْدَ الْغَيْرِ، وَيُقَالُ: تَمَسْكَنَ الرَّجُلُ إِذَا لَانَ وَتَوَاضَعَ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُصَلِّي: «تَأَنَّ وَتَمَسْكَنْ»
يريد تَوَاضَعْ وَتَخَشَّعْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ السَّائِلُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ الذَّارِيَاتِ:
19 فَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذكرنا هاهنا أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ السَّائِلُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْرُومُ هُوَ الْفَقِيرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَحْرُومَ مُبَالَغَةٌ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ الْحِرْمَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ:
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَحْيِنِي مِسْكِينًا» الْحَدِيثَ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ فَأَمَاتَهُ مِسْكِينًا، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ تُوُفِّيَ كَانَ يَمْلِكُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مِسْكِينًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَالِكًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، أَمَّا الْفَقِيرُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا»
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْفَقْرَ أَشَدُّ حَالًا مِنَ الْمَسْكَنَةِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى ضِدَّانِ، كَمَا أَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ ضِدَّانِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ الْغِنَى وَالْمَسْكَنَةَ ضِدَّانِ بَلْ قَالُوا: التَّرَفُّعُ وَالتَّمَسُكُنَ ضِدَّانِ، فَمَنْ كَانَ مُنْقَادًا لِكُلِّ أَحَدٍ خَائِفًا مِنْهُمْ مُتَحَمِّلًا لِشَرِّهِمْ سَاكِتًا عَنْ جَوَابِهِمْ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِمْ. قَالُوا: إِنَّ فُلَانًا يُظْهِرُ الذُّلَّ وَالْمَسْكَنَةَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مِسْكِينٌ عَاجِزٌ، وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَجَعَلُوهُ عِبَارَةً عَنْ ضِدِّ الْغَنِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ يَصِفُونَ الرَّجُلَ الْغَنِيَّ بِكَوْنِهِ مِسْكِينًا، إِذَا كَانَ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ الْخُضُوعَ وَالطَّاعَةَ وَتَرْكَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ يَصِفُونَ الرَّجُلَ الْفَقِيرَ بِكَوْنِهِ مُتَرَفِّعًا عَنِ التَّوَاضُعِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَقْرَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمَالِ وَالْمَسْكَنَةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ التَّوَاضُعِ، وَالْأَوَّلُ يُنَافِي حُصُولَ الْمَالِ، وَالثَّانِي لَا يُنَافِي حُصُولَهُ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ فِي الزَّكَاةِ: «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ»
وَلَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ فِي الْمَسَاكِينِ أَشَدَّ، لَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ: وَرُدَّهَا عَلَى مَسَاكِينِهِمْ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَهَمِّ أَوْلَى، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الفقير أسوأ حالا مِنَ الْمِسْكِينِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ بِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ الْبَلَدِ: 16 وَصَفَ الْمِسْكِينَ بِكَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَفَّارَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ لَهُ، وَلَا فَاقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى إِزَالَةِ الْجُوعِ. الثَّانِي: احْتَجُّوا بِقَوْلِ الرَّاعِي:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ
... وفق العيال فلم يترك له سيد
سَمَّاهُ فَقِيرًا وَلَهُ حَلُوبَةٌ. الثَّالِثُ: قَالُوا الْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ حَيْثُ يَحْضُرُ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُ فِيهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ. الرَّابِعُ: نَقَلُوا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُمَا