الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَنْقِمُونَ مِنْهُ، وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا
... أنهم يحلمون إن غضبوا
وكقوله النَّابِغَةُ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ عَيْبٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صَدَرَتِ الْجِنَايَةُ الْعَظِيمَةُ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا فَازُوا بِالْخَيْرِ، فَأَمَّا أَنَّهُمْ تَابُوا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا قَالُوهُ فِي تَوْبَةِ الْجُلَاسِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَمَعْلُومٌ. وَأَمَّا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ كُفْرُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ صَارُوا مِثْلَ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ وَسَبْيُ أَوْلَادِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ. وَقِيلَ بِمَا يَنَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَذَابُ الْقَبْرِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يَعْنِي أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ إِذَا حُقَّ لَمْ يَنْفَعْهُ وَلِيٌّ ولا نصير.
سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
في قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ المسألة الأولى اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَكْثَرُهَا فِي شَرْحِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَقْسَامٌ وَأَصْنَافٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَذْكُرُهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ فَيَقُولُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ التَّوْبَةِ: 61- وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ التَّوْبَةِ: 58- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي التَّوْبَةِ: 49- وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ أَبْطَأَ عَنْهُ مَالُهُ بِالشَّأْمِ، فَلَحِقَهُ شِدَّةٌ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِبَعْضِ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَأَصَّدَّقَنَّ وَلَأُؤَدِّيَنَّ مِنْهُ حَقَّ اللَّهِ، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» فَرَاجَعَهُ وَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَدَعَا لَهُ، فَاتَّخَذَ غَنَمًا، فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، حَتَّى ضَاقَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ، فَنَزَلَ وَادِيًا بِهَا، فَجَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْجُمُعَةَ ثُمَّ تَرَكَ الْجُمُعَةَ. وَطَفِقَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَخْبَارِ، وَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِخَبَرِهِ فَقَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ» فنزل قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ وَقَالَ: «مُرَّا بِثَعْلَبَةَ فَخُذَا صَدَقَاتِهِ» فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمَا: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ أَوْ أُخْتُ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ يَدْفَعِ الصَّدَقَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، فَأَتَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى