وَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّكَالِيفَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّاهِرِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ النَّهْيِ مُعَلَّلًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُحْدَثَةٌ، وَتَعْلِيلُ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ مُحَالٌ.
وَالْجَوَابُ: الْكَلَامُ فِي أَنَّ تَعْلِيلَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَصَالِحِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ بَحْثٌ طَوِيلٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا الظاهر يدل عليه.
سورة التوبة (9) : آية 85وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا بِعَيْنِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذُكِرَتْ هاهنا، وَقَدْ حَصَلَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي أَلْفَاظٍ: فَأَوَّلُهَا: فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَالَ: فَلا تُعْجِبْكَ بِالْفَاءِ. وَهَهُنَا قَالَ: وَلا تُعْجِبْكَ بِالْوَاوِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قال هناك أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وهاهنا كَلِمَةُ (لَا) مَحْذُوفَةٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وهاهنا حَذَفَ اللَّامَ وَأَبْدَلَهَا بِكَلِمَةِ (أَنْ) وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قال هناك فِي الْحَياةِ وهاهنا حَذَفَ لَفْظَ الْحَيَاةِ وَقَالَ:
فِي الدُّنْيا فَقَدْ حَصَلَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ فَوَائِدَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّفَاوُتِ، ثُمَّ نَذْكُرَ فَائِدَةَ هَذَا التَّكْرِيرِ.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ:
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ التَّفَاوُتِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ: فَلا تُعْجِبْكَ بِالْفَاءِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَبِالْوَاوِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، فَالسَّبَبُ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ كَارِهِينَ لِلْإِنْفَاقِ، وَإِنَّمَا كَرِهُوا ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ لِكَوْنِهِمْ مُعْجَبِينَ/ بِكَثْرَةِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ. فَلِهَذَا الْمَعْنَى نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْجَابِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، فَقَالَ: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وأما هاهنا فَلَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ فَجَاءَ بِحَرْفِ الْوَاوِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْتِيبِ يُبْتَدَأُ بِالْأَدْوَنِ ثُمَّ يُتَرَقَّى إِلَى الْأَشْرَفِ، فَيُقَالُ لَا يُعْجِبُنِي أَمْرُ الْأَمِيرِ وَلَا أَمْرُ الْوَزِيرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ إِعْجَابُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ بِأَوْلَادِهِمْ فَوْقَ إِعْجَابِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وهاهنا قَالَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فَالْفَائِدَةُ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَأَنَّهُ أَيْنَمَا وَرَدَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ فَمَعْنَاهُ «أَنْ» كَقَوْلِهِ:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ الْبَيِّنَةِ: 5 أَيْ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا بأن يَعْبُدُوا اللَّهَ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهاهنا ذَكَرَ فِي الدُّنْيا وَأَسْقَطَ لَفْظَ الْحَيَاةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بَلَغَتْ فِي الْخِسَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى حَيَاةً، بَلْ يَجِبُ الِاقْتِصَارُ عِنْدَ