الشَّامِ دَخَلُوا الْعِرَاقَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْغَزْوِ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْقَرِيبَةِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُقَابَلَةَ الْكُلِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَعَذِّرَةٌ، وَلَمَّا تَسَاوَى الْكُلُّ فِي وُجُوبِ الْقِتَالِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُحَارَبَةِ وَامْتَنَعَ الْجَمْعُ، وَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَالْقُرْبُ مُرَجِّحٌ ظَاهِرٌ كَمَا فِي الدَّعْوَةِ، وَكَمَا فِي سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الِابْتِدَاءَ بِالْحَاضِرِ أَوْلَى مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ لِهَذَا الْمُهِمِّ، فَوَجَبَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَقْرَبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْأَقْرَبِ أَوْلَى لِأَنَّ النَّفَقَاتِ فِيهِ أَقَلُّ، وَالْحَاجَةَ إِلَى الدَّوَابِّ وَالْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ أَقَلُّ. الثَّالِثُ:
أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُجَاهِدَةَ إِذَا تَجَاوَزُوا مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ فَقَدْ عَرَّضُوا الذَّرَارِيَّ لِلْفِتْنَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُجَاوِرِينَ لِدَارِ الْإِسْلَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَقْوِيَاءَ أَوْ ضُعَفَاءَ، فَإِنْ كَانُوا أَقْوِيَاءَ كَانَ تَعَرُّضُهُمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ مِنْ تَعَرُّضِ الْكُفَّارِ الْمُتَبَاعِدِينَ، وَالشَّرُّ الْأَقْوَى الْأَكْثَرُ أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَإِنْ كَانُوا ضُعَفَاءَ كَانَ اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَسْهَلَ، وَحُصُولُ عِزِّ الْإِسْلَامِ لِسَبَبِ اِنْكِسَارِهِمْ أَقْرَبَ وَأَيْسَرَ، فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِهِمْ أَوْلَى. الْخَامِسُ: أَنَّ وُقُوفَ الْإِنْسَانِ عَلَى حَالِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ أَسْهَلُ مِنْ وُقُوفِهِ عَلَى حَالِ مَنْ يَبْعُدُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اقْتِدَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْأَقْرَبِينَ أَسْهَلَ لِعِلْمِهِمْ بِكَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهِمْ وَبِمَقَادِيرِ أَسْلِحَتِهِمْ وَعَدَدِ عَسَاكِرِهِمْ. السَّادِسُ: أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسِعَةٌ، فَإِذَا اشْتَغَلَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِقِتَالِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ كَانَتِ الْمُؤْنَةُ أَسْهَلَ، وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ أَيْسَرَ. السَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ وَاجِبَانِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَيْسَرَ حُصُولًا وَجَبَ تَقْدِيمُهُ، وَالْقُرْبُ سَبَبُ السُّهُولَةِ، فَوَجَبَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَقْرَبِ.
الثَّامِنُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ فِي الدَّعْوَةِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَفِي الْغَزْوِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَفِي جَمِيعِ الْمُهِمَّاتِ كَذَلِكَ. فَإِنَّ
الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا جَلَسَ عَلَى الْمَائِدَةِ وَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الْجَوَانِبِ الْبَعِيدَةِ مِنْ تِلْكَ الْمَائِدَةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: «كُلْ مِمَّا يَلِيكَ»
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَاجِبٌ.
فَإِنْ قِيلَ: رُبَّمَا كَانَ التَّخَطِّي مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ أَصْلَحَ، لِأَنَّ الْأَبْعَدَ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاوَزَ الْأَقْرَبَ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ لَهُ وَزْنًا.
قُلْنَا: ذَاكَ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ، وَمَا ذَكَرْنَا احْتِمَالَاتٍ كَثِيرَةً، وَمَصَالِحُ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَرْجِيحِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مَصْلَحَةً عَلَى مَا هُوَ الْأَقَلُّ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ إِنَّمَا قُلْنَاهُ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُقَاتَلَةِ الْأَقْرَبِ وَالْأَبْعَدِ، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُلِّ، فَلَا كَلَامَ فِي أَنَّ الْأَوْلَى هُوَ الْجَمْعُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ الْبَتَّةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ، فَتْحُ الْغَيْنِ وَضَمُّهَا وَكَسْرُهَا.
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْغِلْظَةُ بِالْكَسْرِ الشِّدَّةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْغِلْظَةُ كَالضَّغْطَةِ، وَالْغِلْظَةُ كَالسُّخْطَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ التَّوْبَةِ: 73 وَقَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا آلِ عِمْرَانَ: 139 ، النساء: 104 وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ الْمَائِدَةِ: 54 وَقَوْلِهِ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ الْفَتْحِ: 29 وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ فِي تَفْسِيرِ الْغِلْظَةِ، قِيلَ شَجَاعَةً وَقِيلَ شِدَّةً وَقِيلَ غَيْظًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغِلْظَةَ ضِدُّ الرِّقَّةِ، وَهِيَ الشَّدَّةُ فِي إِحْلَالِ النِّقْمَةِ، وَالْفَائِدَةُ فِيهَا أَنَّهَا أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي الزَّجْرِ وَالْمَنْعِ عَنِ الْقَبِيحِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَكُونُ مُطَّرِدًا، بَلْ قَدْ يَحْتَاجُ تَارَةً إِلَى الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ وَأُخْرَى إِلَى الْعُنْفِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْغِلْظَةِ الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ يُنَفِّرُ وَيُوجِبُ تَفَرُّقَ الْقَوْمِ، فَقَوْلُهُ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً يَدُلُّ عَلَى تَقْلِيلِ الْغِلْظَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ