السُّورَةِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْكُفْرَ الزَّائِدَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْآخَرِينَ سَمِعُوا تِلْكَ السُّورَةَ وَازْدَادُوا إِيمَانًا. فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الرَّجَاسَةَ هُمْ فَعَلُوهَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ.
قُلْنَا: لَا نَدَّعِي أَنَّ اسْتِمَاعَ هَذِهِ السُّورَةِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْكُفْرِ عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ، بَلْ نَقُولُ اسْتِمَاعُ هَذِهِ السُّورَةِ لِلنَّفْسِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْمَوْصُوفَةِ بِالْخُلُقِ الْمُعَيَّنِ وَالْعَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ. يُوجِبُ/ الْكُفْرَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْحَسُودَ لَوْ أَرَادَ إِزَالَةَ خُلُقِ الْحَسَدِ عَنْ نَفْسِهِ، يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَفْعَالَ الْمُشْعِرَةَ بِالْحَسَدِ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الْقَلْبِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْحَسَدِ، فَلَا يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ فَأَصْلُ الْقُدْرَةِ غَيْرٌ، وَالْفِعْلُ غَيْرٌ، وَالْخُلُقُ غَيْرٌ، فَإِنَّ أَصْلَ الْقُدْرَةِ حَاصِلٌ لِلْكُلِّ أَمَّا الْأَخْلَاقُ فَالنَّاسُ فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّفْسَ الطَّاهِرَةَ النَّقِيَّةَ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا الْمَوْصُوفَةَ بِاسْتِيلَاءِ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخِرَةِ إِذَا سَمِعَتِ السُّورَةَ صَارَ سَمَاعُهَا مُوجِبًا لِازْدِيَادِ رَغْبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَنَفْرَتِهُ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا النَّفْسُ الْحَرِيصَةُ عَلَى الدُّنْيَا الْمُتَهَالِكَةُ عَلَى لَذَّاتِهَا الرَّاغِبَةُ فِي طَيِّبَاتِهَا الْغَافِلَةُ عَنْ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخِرَةِ، إِذَا سَمِعَتْ هَذِهِ السُّورَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْجِهَادِ وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْمَالِ لِلنَّهْبِ ازْدَادَ كُفْرًا عَلَى كُفْرِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ إِنْزَالَ هَذِهِ السُّورَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْكَافِرِ مُوجِبٌ لِأَنْ يَزِيدَ رِجْسًا عَلَى رِجْسٍ، فَكَانَ إِنْزَالُهَا سَبَبًا فِي تَقْوِيَةِ الْكُفْرِ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَصُدُّ الْإِنْسَانَ وَيَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالرُّشْدِ وَيُلْقِيهِ فِي الْغَيِّ وَالْكُفْرِ.
بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: مَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ صِلَةٌ مُؤَكَّدَةٌ. الثَّانِي: الِاسْتِبْشَارُ اسْتِدْعَاءُ الْبِشَارَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا تذكر تلك النعمة حصلت البشارة، فَهُوَ بِوَاسِطَةِ تَجْدِيدِ ذَلِكَ التَّذَكُّرِ يَطْلُبُ تَجْدِيدَ الْبِشَارَةِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَهَا مَرَضٌ، فَمَرَضُهَا الْكُفْرُ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ، وَصِحَّتُهَا الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاقُ الفاضلة. والله أعلم.
سورة التوبة (9) : آية 126أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَمُوتُونَ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَخَلَّصُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ عَنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَفِيهِ مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة أولا تَرَوْنَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْمُخَاطَبَةِ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ نُبِّهُوا عَلَى إِعْرَاضِ الْمُنَافِقِينَ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، كَانَ الْمَعْنَى تَقْرِيعَ الْمُنَافِقِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِمَا يَحْدُثُ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِلِاعْتِبَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: أَوَلا يَرَوْنَ هَذِهِ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ خِطَابٌ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ قَالَ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَكَانَ كَذَا وَكَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُمْتَحَنُونَ بِالْمَرَضِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ مِنْ ذَلِكَ النِّفَاقِ وَلَا يَتَّعِظُونَ بِذَلِكَ الْمَرَضِ، كَمَا يَتَّعِظُ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا