قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّرْفَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى انْصِرَافِهِمْ، وَالصَّرْفُ عَنِ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ عُقُوبَةً، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ أَنْبِيَاءَهُ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِصَرْفِ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ. وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يُؤَدِّي أَنْ لَا يُوثَقَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا الصَّرْفُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَ قُلُوبِهِمْ بِمَا أَوْرَثَهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَيْدِ. الثَّانِي: صَرَفَهُمْ عَنِ الْأَلْطَافِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ آمَنَ وَاهْتَدَى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي ظَاهِرٌ أَنَّهَا مُتَكَلَّفَةٌ جِدًّا، وَأَمَّا الْوَجْهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي، وَإِلَّا لَزِمَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَحُصُولُ ذَلِكَ الدَّاعِي لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، بَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْعَبْدُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى الْكُفْرِ إِذَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ الْحُصُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الدَّاعِي انْصَرَفَ ذَلِكَ الْقَلْبُ مِنْ جَانِبِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ صَرْفِ الْقَلْبِ وَهُوَ كَلَامٌ مُقَرَّرٌ بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى هَذَا/ النَّصِّ، فَبَلَغَ فِي الْوُضُوحِ إِلَى أَعْلَى الْغَايَاتِ، وَمِمَّا بَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ الْآيَةِ مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُولُوا انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، لَكِنْ قُولُوا قَدْ قَضَيْنَا الصَّلَاةَ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّفَاؤُلُ بِتَرْكِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْوَارِدَةِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَالتَّرْغِيبُ فِي تِلْكَ اللَّفْظَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْخَيْرِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْجُمُعَةِ: 10 .
سورة التوبة (9) : آية 128لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)
فيه مسائل:
المسألة الأولى: في بيان ما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُبَلِّغَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى الْخَلْقِ تَكَالِيفَ شَاقَّةً شَدِيدَةً صَعْبَةً يَعْسُرُ تَحَمُّلُهَا، إِلَّا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِوُجُوهِ التَّوْفِيقِ وَالْكَرَامَةِ، خَتَمَ السُّورَةَ بِمَا يُوجِبُ سُهُولَةَ تَحَمُّلِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ مِنْكُمْ، فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ عَائِدٌ إِلَيْكُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بِحَالٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ ضَرَرُكُمْ وَتَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِي إِيصَالِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَيْكُمْ، فَهُوَ كَالطَّبِيبِ الْمُشْفِقِ وَالْأَبِ الرَّحِيمِ فِي حَقِّكُمْ، وَالطَّبِيبُ الْمُشْفِقُ رُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَى عِلَاجَاتٍ صَعْبَةٍ يَعْسُرُ تَحَمُّلُهَا، وَالْأَبُ الرَّحِيمُ رُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَى تَأْدِيبَاتٍ شَاقَّةٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا عُرِفَ أَنَّ الطَّبِيبَ حَاذِقٌ، وَأَنَّ الْأَبَ مُشْفِقٌ، صَارَتْ تِلْكَ الْمُعَالَجَاتُ الْمُؤْلِمَةُ مُتَحَمَّلَةً، وَصَارَتْ تِلْكَ التَّأْدِيبَاتُ جَارِيَةً مَجْرَى الْإِحْسَانِ. فكذا هاهنا لَمَّا عَرَفْتُمْ أَنَّهُ رَسُولُ حَقٍّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَاقْبَلُوا مِنْهُ هَذِهِ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ لِتَفُوزُوا بِكُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا بَلْ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَتَوَلَّوْا فَاتْرُكْهُمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَعَوِّلْ عَلَى اللَّهِ وَارْجِعْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ إِلَى اللَّهِ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ التَّوْبَةِ: 129 وَهَذِهِ الْخَاتِمَةُ لِهَذِهِ السُّورَةِ جَاءَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَنِهَايَةِ الْكَمَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرَّسُولَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِخَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ: