عَائِدٌ إِلَى النَّبَاتِ الْمَوْجُودِ فِي الْأَرْضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَتاها أَمْرُنا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ عَذَابَنَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَعْنَى أَتَاهَا أَمْرُنَا بِهَلَاكِهَا. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناها حَصِيداً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا شَيْءَ فِيهَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْمَحْصُودَ وَعَلَى هَذَا، الْمُرَادُ بِالْحَصِيدِ الْأَرْضُ الَّتِي حُصِدَ نَبْتُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَصِيدِ النَّبَاتَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَصِيدُ الْمُسْتَأْصَلُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَصِيدُ الْمَقْطُوعُ وَالْمَقْلُوعُ. وَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ لِلشَّيْءِ إِذَا فَنِيَ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَ بِالْأَمْسِ أَيْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَوْلِهِمْ غَنِيَ الْقَوْمُ فِي دَارِهِمْ، إِذَا أَقَامُوا بِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا صِفَةً لِلنَّبَاتِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: كَأَنْ لَمْ تُعَمَّرْ بِالْأَمْسِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ هُوَ الْأَرْضُ، وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أَيْ نَذْكُرُ وَاحِدَةً مِنْهَا بَعْدَ الْأُخْرَى، عَلَى التَّرْتِيبِ لِيَكُونَ تَوَالِيهَا وَكَثْرَتُهَا سَبَبًا لِقُوَّةِ اليقين، وموجبا لزوال الشك والشبهة.
سورة يونس (10) : آية 25وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ. اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَفَّرَ الْغَافِلِينَ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا بِالْمَثَلِ السَّابِقِ، رَغَّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَوَجْهُ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ شَبَهُ سَيِّدٍ بَنَى دَارًا وَوَضَعَ مَائِدَةً وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي داخل الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَائِدَةِ وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ لَمْ يَدْخُلْ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ السَّيِّدُ فاللَّه السَّيِّدُ، وَالدَّارُ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَالْمَائِدَةُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشمس إلا وبجنيبها مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كُلُّ الْخَلَائِقِ/ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ واللَّه يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ دَارِ السَّلَامِ الْجَنَّةُ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَصَلَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّلَامَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَالْجَنَّةُ دَارُهُ وَيَجِبُ عَلَيْنَا هَاهُنَا بَيَانُ فَائِدَةِ تَسْمِيَةِ اللَّه تَعَالَى بِالسَّلَامِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَقَدْ سَلِمَ مِنَ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ، وَسَلِمَ مِنِ احْتِيَاجِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَى الِافْتِقَارِ إِلَى الْغَيْرِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ محمد: 38 وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ فَاطِرٍ: 15 وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالسَّلَامِ بِمَعْنَى أَنَّ الْخَلْقَ سَلِمُوا مِنْ ظُلْمِهِ، قَالَ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فُصِّلَتْ: 46 وَلِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ، وَتَصَرُّفُ الْفَاعِلِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ ظُلْمًا وَلِأَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا يَصْدُرُ إِمَّا عَنِ الْعَاجِزِ أَوِ الْجَاهِلِ أَوِ الْمُحْتَاجِ، وَلَمَّا كَانَ الْكُلُّ مُحَالًا عَلَى اللَّه تَعَالَى، كَانَ الظُّلْمُ مُحَالًا فِي حَقِّهِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالسَّلَامِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ذُو السَّلَامِ، أَيِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّلَامِ إِلَّا هُوَ، وَالسَّلَامُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْمَكَارِهِ وَالْآفَاتِ فَالْحَقُّ تَعَالَى هُوَ السَّاتِرُ لِعُيُوبِ الْمَعْيُوبِينَ، وَهُوَ الْمُجِيبُ لِدَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، وَهُوَ الْمُنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: السَّلَامُ مَصْدَرُ سَلِمَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: السَّلَامُ جَمْعُ سَلَامَةٍ، وَمَعْنَى دَارِ السَّلَامِ: الدَّارُ الَّتِي مَنْ دَخَلَهَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ فَالسَّلَامُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، كَالرَّضَاعِ بِمَعْنَى الرَّضَاعَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُنَاكَ سَلِمَ مِنْ كُلِّ الْآفَاتِ، كَالْمَوْتِ وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ وَالْمَصَائِبِ وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَالْكَدِّ وَالتَّعَبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ بِدَارِ السَّلَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِهَا قَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يس: 58 وَالْمَلَائِكَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ