بالمعجز هو الذي يسميه الْمَنْطِقِيُّونَ بُرْهَانَ الْإِنْ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بُرْهَانَ اللَّمْ، وَهُوَ أَشْرَفُ وَأَعْلَى وَأَكْمَلُ وَأَفْضَلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ مَوْعِظَةً مِنْ عِنْدِ اللَّه. وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ هُدًى. وَرَابِعُهَا: كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَا بُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ فَائِدَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَنَقُولُ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِالْأَجْسَادِ كَانَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِسَبَبِ عِشْقٍ طَبِيعِيٍّ وَجَبَ لِلرُّوحِ عَلَى الْجَسَدِ، ثُمَّ إِنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ الْتَذَّ بِمُشْتَهَيَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الْجَسَدَانِيِّ وَطَيِّبَاتِهِ بِوَاسِطَةِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَتَمَرَّنَ عَلَى ذَلِكَ وَأَلِفَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَاعْتَادَهَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ نُورَ الْعَقْلِ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي آخِرِ الدَّرَجَةِ، حَيْثُ قَوِيَتِ الْعَلَائِقُ الْحِسِّيَّةُ وَالْحَوَادِثُ الْجَسَدَانِيَّةُ، فَصَارَ ذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ فِي جَوْهَرِ الرُّوحِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْرَاضِ الشَّدِيدَةِ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ طَبِيبٍ حَاذِقٍ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ فِي الْمَرَضِ الشَّدِيدِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ يُعَالِجُهُ بِالْعِلَاجَاتِ الصَّائِبَةِ مَاتَ لَا مَحَالَةَ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ صَادَفَهُ مِثْلُ هَذَا الطَّبِيبِ، وَكَانَ هَذَا الْبَدَنُ قَابِلًا لِلْعِلَاجَاتِ الصَّائِبَةِ فَرُبَّمَا حَصَلَتِ الصِّحَّةُ وَزَالَ السُّقْمُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَالطَّبِيبِ الْحَاذِقِ، وَهَذَا الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أَدْوِيَتِهِ الَّتِي بِتَرْكِيبِهَا تُعَالَجُ الْقُلُوبُ الْمَرِيضَةُ. ثُمَّ إِنَّ الطَّبِيبَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَرِيضِ فَلَهُ مَعَهُ مَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَا يَنْبَغِي وَيَأْمُرَهُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي بِسَبَبِهَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعِظَةُ فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوَعْظِ إِلَّا الزَّجْرُ عَنْ كُلِّ مَا يَبْعُدُ عَنْ رِضْوَانِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَنْعُ عَنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ بِغَيْرِ اللَّه.
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الشِّفَاءُ وَهُوَ أَنْ يَسْقِيَهُ أَدْوِيَةً تُزِيلُ عَنْ بَاطِنِهِ تِلْكَ الْأَخْلَاطَ الْفَاسِدَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْمَرَضِ، فَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِذَا مَنَعُوا الْخَلْقَ عَنْ فِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ صَارَتْ ظَوَاهِرُهُمْ مُطَهَّرَةً عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُونَهُمْ بِطَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَذَلِكَ بِالْمُجَاهَدَةِ فِي إِزَالَةِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَتَحْصِيلِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَأَوَائِلُهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ النَّحْلِ: 90 وَذَلِكَ لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقَائِدَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَخْلَاقَ الذَّمِيمَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَمْرَاضِ، فَإِذَا زَالَتْ فَقَدْ حَصَلَ الشِّفَاءُ لِلْقَلْبِ وَصَارَ جَوْهَرُ الرُّوحِ مُطَهَّرًا عَنْ جَمِيعِ النُّقُوشِ الْمَانِعَةِ عَنْ مُطَالَعَةِ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: حُصُولُ الْهُدَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ النَّاطِقَةِ قَابِلٌ لِلْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَضْوَاءِ الْإِلَهِيَّةِ وَفَيْضُ الرَّحْمَةِ عَامٌّ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا»
وَأَيْضًا فَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَكُونُ إِمَّا لِلْعَجْزِ أَوْ لِلْجَهْلِ أَوْ لِلْبُخْلِ، وَالْكُلُّ فِي حَقِّ الْحَقِّ مُمْتَنِعٌ، فَالْمَنْعُ فِي حَقِّهِ مُمْتَنِعٌ، فَعَلَى هَذَا عَدَمُ حُصُولِ هَذِهِ الْأَضْوَاءِ الرُّوحَانِيَّةِ، إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ الْعَقَائِدَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَخْلَاقَ الذَّمِيمَةَ طَبْعُهَا طَبْعُ الظُّلْمَةِ، وَعِنْدَ قِيَامِ الظُّلْمَةِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ النُّورِ، فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ، فَقَدْ زَالَ الْعَائِقُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ ضَوْءُ عَالَمِ الْقُدْسِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ، وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ الضَّوْءِ إِلَّا الْهُدَى، فَعِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ تَصِيرُ هَذِهِ النَّفْسُ بِحَيْثُ قَدِ انْطَبَعَ فِيهَا نَقْشُ الْمَلَكُوتِ وَتَجَلَّى لها قدس