يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
يونس: 96، 97 أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ آمَنُوا بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْإِيمَانِ وَكُلُّ مَا قَضَى اللَّه بِهِ فَهُوَ وَاقِعٌ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَلِمَةِ فَلَوْلا فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقَانِ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» قَالَ: قَالَ أَبُو مَالِكٍ صَاحِبُ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ مَا فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ لَوْلَا، فَمَعْنَاهُ هَلَّا، إِلَّا حَرْفَيْنِ، فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها مَعْنَاهُ فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ، فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا، وَكَذَلِكَ فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ هود: 116 مَعْنَاهُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ، فَعَلَى هَذَا تَقْدِيرُ الْآيَةِ، فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى الْقَرْيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَهْلَهَا وَوَقَعَ اسْتِثْنَاءُ الْقَوْلِ مِنَ الْقَرْيَةِ، فَكَانَ كَقَوْلِهِ:
وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أحد
... ألا أواري
وَقُرِئَ أَيْضًا بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ (لَوْلَا) مَعْنَاهُ هَلَّا، وَالْمَعْنَى هَلَّا كَانَتْ قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عَنِ الْكُفْرِ وَأَخْلَصَتْ فِي الْإِيمَانِ قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي اسْتِثْنَاءَ قَوْمِ يُونُسَ مِنَ الْقُرَى، إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى اسْتِثْنَاءُ قَوْمِ يُونُسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى وَلَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا فَعَلْنَا بِهِمْ كَذَا وَكَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ إِلَى نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَكَذَّبُوهُ فَذَهَبَ عَنْهُمْ مُغَاضِبًا، فَلَمَّا فَقَدُوهُ خَافُوا نُزُولَ الْعِقَابِ، فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَعَجُّوا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ يُونُسُ قَالَ لَهُمْ إِنَّ أَجْلَكُمْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً فَقَالُوا: إِنْ رَأَيْنَا أَسْبَابَ الْهَلَاكِ آمَنَّا بِكَ، فَلَمَّا مَضَتْ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ لَيْلَةً ظَهَرَ فِي السَّمَاءِ غَيْمٌ أَسْوَدُ شَدِيدُ السَّوَادِ، فَظَهَرَ مِنْهُ دُخَانٌ شَدِيدٌ وَهَبَطَ ذَلِكَ الدُّخَانُ حَتَّى وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ وَسَوَّدَ سُطَوَحَهُمْ فَخَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَبَيْنَ الدَّوَابِّ وَأَوْلَادِهَا فَحَنَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَعَلَتِ الْأَصْوَاتُ، وَكَثُرَتِ التَّضَرُّعَاتُ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ وَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّه تَعَالَى فَرَحِمَهُمْ وَكَشَفَ عَنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَلَغَ مِنْ تَوْبَتِهِمْ أَنْ يَرُدُّوا الْمَظَالِمَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَقْلَعُ الْحَجَرَ بَعْدَ أَنْ وَضَعَ عَلَيْهِ بِنَاءَ أَسَاسِهِ فَيَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ، وَقِيلَ خَرَجُوا إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَقِيَّةِ عُلَمَائِهِمْ فَقَالُوا قَدْ نَزَلَ بِنَا الْعَذَابُ فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهُمْ قُولُوا يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ وَيَا حَيُّ يَا مُحْيِي الْمَوْتَى وَيَا حَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالُوا فَكَشَفَ اللَّه الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ عَظُمَتْ وَجَلَّتْ وَأَنْتَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَجَلُّ افْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ وَلَا تَفْعَلْ بِنَا مَا نَحْنُ أَهْلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ تَابَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ وَحَكَى عَنْ قَوْمِ يُونُسَ أَنَّهُمْ تَابُوا وَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ فَمَا الْفَرْقُ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا تَابَ بَعْدَ أَنْ شَاهَدَ الْعَذَابَ، وَأَمَّا قَوْمُ يُونُسَ فَإِنَّهُمْ تَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتٌ دَلَّتْ عَلَى قُرْبِ الْعَذَابِ تَابُوا قَبْلَ أن شاهدوا فظهر الفرق.